خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ كَٱلَّذِي ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى ٱئْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٧١
وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلاةَ وَٱتَّقُوهُ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٧٢
وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٧٣
-الأنعام

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا } أي ما لا ينفعنا إن دعوناه. { وَلاَ يَضُرُّنَا } إن تركناه؛ يريد الأصنام. { وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللَّهُ } أي نرجع إلى الضلالة بعد الهدى. وواحد الأعقاب عقِب وهو مؤنث؛ وتصغيره عقيبة. يقال: رجع فلان على عقِبيه إذا أدبر. قال أبو عبيدة: يقال لمن ردّ عن حاجته ولم يظفر بها: قد ردّ على عقبيه. وقال المبرد: معناه تعقب بالشر بعد الخير. وأصله من العاقبة والعقبى وهما ما كان تالياً للشيء واجباً أن يتبعه؛ ومنه { وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }. ومنه عَقِب الرِّجل. ومنه العقوبة، لأنها تالية للذنب، وعنه تكون.

قوله تعالى: { كَٱلَّذِي } الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. { ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَاطِينُ فِي ٱلأَرْضِ حَيْرَانَ } أي استغوته وزيّنت له هواه ودعته إليه. يقال: هَوَى يَهْوِي إلى الشيء أسرع إليه. وقال الزجاج: هو من هَوِيَ يَهْوَى، مِن هَوَى النفس؛ أي زَيّن له الشيطان هواه. وقراءة الجماعة «استهوته» أي هوت به، على تأنيث الجماعة. وقرأ حمزة «استهواه الشياطين» على تذكير الجمع. وروي عن ابن مسعود «استهواه الشيطان»، وروي عن الحسن، وهو كذلك في حرف أبَيّ. ومعنى «ٱئتنا» تابعنا. وفي قراءة عبد الله أيضاً «يَدعُونه إلى الهُدَى بَيِّناً». وعن الحسن أيضاً «استهوته الشياطون». { حَيْرَان } نصب على الحال، ولم ينصرف لأن أنثاه حيرى كسكران وسكرى وغضبان وغضبى. والحَيْرَانُ هو الذي لا يهتدِي لجهة أمره. وقد حار يَحار حَيْراً وحَيْرَة وحَيْرُورة، أي تردّد. وبه سُمِّي الماء المستنقع الذي لا منفذ له حائراً، والجمع حُورَان. والحائر الموضع الذي يتحير فيه الماء. قال الشاعر:

تَخْطُو على بَرْدِيّتَيْن غذاهماغَدِقٌ بساحة حائرٍ يَعْبُوبُ

قال ابن عباس: أي مَثَل عابد الصنم مثل من دعاه الغُول فيتبعه فيُصبح وقد ألقته في مَضَلّة ومَهْلَكة؛ فهو حائر في تلك المَهامِة. وقال في رواية أبي صالح: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق، كان يدعو أباه إلى الكفر وأبواه يدعوانه إلى الإسلام والمسلمون؛ وهو معنى قوله: { لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى ٱلْهُدَى } فيأبى. قال أبو عمر: أمُّه أمُّ رُومانَ بنت الحارث بن غَنْم الكنانية؛ فهو شقيق عائشة. وشهِد عبد الرحمن بن أبي بكر بَدْراً وأُحُداً مع قومه وهو كافر، ودعا إلى البراز فقام إليه أبوه ليبارزه فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له «مَتِّعْنِي بنفسك». ثم أسلم وحسُن إسلامه، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم في هُدْنَة الحُدَيْبِيَة. هذا قول أهل السِّيَر. قالوا: كان ٱسمه عبدَ الكعبة فغيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمَه عبد الرحمن، وكان أسنَّ ولد أبي بكر. ويقال: إنه لم يدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعةٌ وِلاءً: أبٌ وبنوه إلا أبا قُحافة وابنَه أبا بكر وٱبنَه عبد الرحمن بن أبي بكر وابنَه أبا عتيق محمد بن عبد الرحمن، والله أعلم.

قوله تعالى: { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلاةَ وَٱتَّقُوهُ } اللام لام كي، أي أمرنا كي نسلم وبأن أقيموا الصلاة؛ لأن حروف الإضافة يعطف بعضها على بعض. قال الفَرّاء: المعنى أمرنا بأن نسلم؛ لأن العرب تقول: أمرتك لتذهب، وبأن تذهب بمعنًى. قال النحاس: سمعت أبا الحسن بن كَيْسان يقول هي لام الخفض، واللامات كلها ثلاث: لامُ خفضٍ ولامُ أمرٍ ولامُ توكيد، لا يخرج شيء عنها. والإسلام الإخلاص. وإقامة الصلاة الإتيان بها والدّوام عليها. ويجوز أن يكون «وأن أقيموا الصلاة» عطفاً على المعنى، أي يدعونه إلى الهدى ويدعونه أن أقيموا الصلاة؛ لأن معنى ٱئتنا أنِ ٱئتنا.

قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ابتداء وخبر وكذا { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } أي فهو الذي يجب أن يُعبد لا الأصنام. ومعنى { بِٱلْحَقِّ } أي بكلمة الحق. يعني قوله «كُنْ».

قوله تعالى: { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } أي وٱذكر يوم يقول كن. أو ٱتّقوا يوم يقول كن. أو قَدِّر يوم يقول كن. وقيل: هو عطف على الهاء في قوله: { وٱتقوه }. قال الفراء: «كن فيكون» يقال: إنه للصُّور خاصَّة؛ أي ويوم يقول للصُّور كن فيكون. وقيل: المعنى فيكون جميع ما أراد من موت الناس وحياتهم. وعلى هذين التأوِيلين يكون { قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ } ابتداءً وخبراً. وقيل: إن قوله تعالى: { قَوْلُهُ } رفع بيكون؛ أي فيكون ما يأمر به. و«الْحَقُّ» من نعته. ويكون التمام على هذا «فيكون قوله الحق». وقرأ ٱبن عامر «فيكونَ» بالنصب، وهو إشارة إلى سرعة الحساب والبعث. وقد تقدّم في «البقرة» القول فيه مستوفى.

قوله تعالى: { يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّوَرِ } أي وله المُلْك يومَ ينفخ في الصُّور. أو وله الحق يوم ينفخ في الصور. وقيل: هو بدل من «يوم يقول». والصُّور قَرْن من نُور يُنفخ فيه، النفخة الأولى للفَناء والثانية للإنشاء. وليس جمع صُورة كما زعم بعضهم؛ أي ينفخ في صُور الموتى على ما نبيِّنه. روى مُسْلم من حديث عبد الله بن عمرو: «...ثم يُنفخ في الصُّور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتاً ورفَع ليتا ـ قال ـ وأوّل من يسمعه رجل يَلُوطُ حَوْض إبِلِه ـ قال ـ فَيَصْعَق ويَصْعَق الناسُ ثم يرسل الله ـ أو قال ينزل الله ـ مطراً كأنه الطّلُّ فَتنْبُت منه أجسادُ الناس ثم يُنفخ فيهِ أخرى فإذا هم قيام ينظرون» وذكر الحديث. وكذا في التنزيل { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ } [الزمر: 68] ولم يقل فيها؛ فعُلم أنه ليس جمع الصُّورة. والأمم مُجْمِعة على أن الذي يَنفخ في الصُّور إسرافيلُ عليه السلام. قال أبو الْهَيْثم: من أنكر أن يكون الصُّور قَرْنا فهو كمن يُنكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات. قال ابن فارس: الصُّور الذي في الحديث كالقَرْن يُنفَخ فيه، والصُّور جمع صُورة. وقال الجوهري: الصُّور القَرْن. قال الراجز:

لقد نَطحناهم غَداةَ الجَمْعَيْننَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّورَيْن

ومنه قوله: { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ } [النمل: 87]. قال الكَلْبِيّ: لا أدري ما هو الصُّور. ويقال: هو جمع صُورة مثلُ بُسْرَة وبُسْر؛ أي يُنفخ في صُوَر الموتى والأرواح. وقرأ الحسن «يومَ يُنْفَخُ في الصُّوَر». والصِّور (بكسر الصاد) لغة في الصُّوَر جمع صُورة والجمع صِوار، وصِيّار (بالياء) لغة فيه. وقال عمرو بن عبيد: قرأ عِياض «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّوَر» فهذا يعني به الخلق. والله أعلم.

قلت: وممن قال إن المراد بالصُّور في هذه الآية جمع صُورة أبو عبيدة. وهذا وإن كان محتملاً فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسُّنّة. وأيضاً لا ينفخ في الصور للبعث مرتين؛ بل ينفخ فيه مرة واحدة؛ فإسرافيل عليه السلام يَنفخ في الصُّور الذي هو القَرْن والله عز وجل يُحيـي الصُّوَر. وفي التنزيل { { فَنَفَخْنَا فِيه مِن رُّوحِنَا } [التحريم: 21].

قوله تعالى: { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } برفع { عالم } صفة لـ { الذِي }؛ أي وهو الذي خلق السموات والأرض عالم الغيب. ويجوز أن يرتفع على إضمار المبتدأ. وقد رُوي عن بعضهم أنه قرأ «يَنْفُخ» فيجوز أن يكون الفاعل { عَالِمُ الغَيْبِ }؛ لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله عز وجل كان منسوباً إلى الله تعالى. ويجوز أن يكون ارتفع { عَالِمُ } حملاً على المعنى؛ كما أنشد سيبويه:

لِيُبْكَ يَزِيـدُ ضارِعٌ لخُصومـةٍ

وقرأ الحسن والأعمش «عالِم» بالخفض على البدل من الهاء التي في «له».