خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣
أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
-الأنفال

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالىٰ: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }.

فيه ثلاث مسائل:

الأولى ـ قال العلماء: هذه الآية تحريض على إلزام طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة تلك الغنيمة. والوجل: الخوف. وفي مستقبله أربع لغات: وَجِل يَوْجل ويَاجَل ويَيْجَل ويِيْجل، حكاه سيبويه. والمصدر وَجِل وَجَلا ومَوْجلاً؛ بالفتح. وهذا مَوْجِله (بالكسر) للموضع والاسم. فمن قال: يا جَل في المستقبل جعل الواو ألفاً لفتحة ما قبلها. ولغة القرآن الواو { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } [الحجر: 53]. ومن قال: «يِيجل» بكسر الياء فهي على لغة بني أسد، فإنهم يقولون: أنا إيجل، ونحن نِيجل، وأنت تِيجل؛ كلها بالكسر. ومن قال: «يَيْجل» بناه على هذه اللغة، ولكنه فتح الياء كما فتحوها في يعلم، ولم تكسر الياء في يعلم لاستثقالهم الكسر على الياء. وكسرت في «ييجل» لتقوِّي إحدىٰ الياءين بالأُخرىٰ. والأمر منه «إيجَلْ» صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها. وتقول: إنِّي منه لأَوْجَل. ولا يقال في المؤنث: وَجْلاء: ولكن وَجِلة. وروى سفيان عن السدّي في قوله جل وعز: { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قال: إذا أراد أن يظلم مظلمة قيل له: ٱتق الله، كَفّ ووَجِل قلبه.

الثانية ـ وصف الله تعالىٰ المؤمنين في هذه الآية بالخوف والوَجَل عند ذكره. وذلك لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ونظير هذه الآية { وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } [الحج: 35]. وقال: { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ٱللَّهِ }. فهذا يرجع إلى كمال المعرفة وثقة القلب. والوَجَل: الفزع من عذاب الله؛ فلا تناقض. وقد جمع الله بين المعنيين في قوله: { { ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ } [الزمر: 23]. أي تسكن نفوسهم من حيث اليقين إلى الله وإن كانوا يخافون الله. فهذه حالة العارفين بالله، الخائفين من سطوته وعقوبته؛ لا كما يفعله جهال العوامّ والمبتدعة الطَّغَام من الزّعيق والزّئير ومن النُّهاق الذي يشبه نُهاق الحمير. فيقال لمن تعاطىٰ ذلك وزعم أن ذلك وَجْدٌ وخشوع: لم تبلغ أن تساوي حال الرسول ولا حال أصحابه في المعرفة بالله، والخوف منه، والتعظيم لجلاله؛ ومع ذلك فكانت حالهم عند المواعظ الفهم عن الله والبكاء خوفاً من الله. ولذلك وصف الله أحوال أهل المعرفة عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال: { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ } [المائدة: 83]. فهذا وصف حالهم وحكاية مقالهم. ومن لم يكن كذلك فليس على هديهم ولا على طريقتهم؛ فمن كان مُسْتَنَّاً فليستَنّ، ومن تعاطىٰ أحوال المجانين والجُنُون فهو من أخسّهم حالاً؛ والجنون فنون. روى مسلم عن أنس بن مالك أن الناس سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أَحْفَوْه في المسألة، فخرج ذات يوم فصعد المنبْر فقال: "سَلُوني لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم ما دمتُ في مقامي هذا" . فلما سمع ذلك القومُ أرَمُّوا ورهِبوا أن يكون بين (يَدَيْ) أمرٍ قد حضر. قال أنس: فجعلت ألتفت يميناً وشمالاً فإذا كل إنسان لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي. وذكر الحديث. وروى الترمذي وصححه عن العِرْباض بن سارِيَة قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذَرَفت منها العيون، وَوجِلت منها القلوب. الحديث. ولم يقل: زَعَقْنا ولا رَقَصْنا ولا زَفَنّا ولا قُمنا.

الثالثة ـ قوله تعالىٰ: { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } أي تصديقاً. فإن إيمان هذه الساعة زيادةٌ على إيمان أمس؛ فمن صدّق ثانياً وثالثاً فهو زيادة تصديق بالنسبة إلى ما تقدّم. وقيل: هو زيادة ٱنشراح الصدر بكثرة الآيات والأدلة؛ وقد مضىٰ هذا المعنىٰ في «آل عمران». { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } تقدّم معنىٰ التوكل في «آل عمران» أيضاً. { ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } تقدّم في أوّل سورة «البقرة». { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي الذي ٱستوىٰ في الإيمان ظاهرُهم وباطنهم. ودلّ هذا على أن لكل حق حقيقة؛ "وقد قال عليه السلام لحارثة: إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك" ؟ الحديث. وسأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد؛ أمؤمن أنت؟ فقال له: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا به مؤمن. وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالىٰ: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ـ إلى قوله ـ { أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } فوالله ما أدري أنا منهم أم لا. وقال أبو بكر الواسِطِيّ: من قال أنا مؤمن بالله حقاً؛ قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف وٱطلاع وإحاطة؛ فمن فقده بطل دعواه فيها. يريد بذلك ما قاله أهل السنة: إنّ المؤمن الحقيقي من كان محكوماً له بالجنة، فمن لم يعلم ذلك من سرّ حكمته تعالىٰ فدعواه بأنه مؤمن حقاً غير صحيح.