خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ
١١٨
-التوبة

الجامع لاحكام القرآن

قوله تعالى: { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } قيل: عن التوبة؛ عن مجاهد وأبي مالك. وقال قتادة: عن غزوة تبوك. وحُكي عن محمد بن زيد معنى «خُلِّفُوا» تُركوا؛ لأن معنى خلّفت فلاناً تركته وفارقته قاعداً عما نهضت فيه. وقرأ عكرمة بن خالد «خَلَفوا» أي أقاموا بعقب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورُوي عن جعفر بن محمد أنه قرأ «خالفوا» وقيل: «خُلِّفُوا» أي أرجئوا وأُخّروا عن المنافقين فلم يُقض فيهم بشيء. وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، وٱعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخر النبيّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن. وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخارِيّ وغيرهما. واللفظ لمسلم قال كعب: كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أُولئك الذين قَبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم وٱستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى اللَّهُ فيه؛ فبذلك قال الله عز وجل: { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ } وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا تَخَلُّفَنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له وٱعتذر إليه فَقبِل منه. وهذا الحديث فيه طول، هذا آخره.

والثلاثة الذين خُلِّفوا هم: كعب بن مالك، ومُرارة بن ربيعة العامِرِيّ، وهلال بن أُميّة الوَاقِفي، وكلهم من الأنصار. وقد خرّج البخاريّ ومسلم حديثَهم، فقال مسلم "عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قطُّ إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر ولم يعاتب أحداً تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِير قريش؛ حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحِبّ أن لي بها مشهدَ بدر، وإن كانت بدر أذْكَرَ في الناس منها، وكان من خبري حين تخلّفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك: أني لم أكن قط أقوى ولا أيسَر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، واللَّهِ ما جمعتُ قبلها راحلتين قطّ حتى جمعتهما في تلك الغزوة؛ فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، وٱستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، وٱستقبل عدوّاً كثيراً؛ فجلاَ للمسلمين أمرهم ليتأهّبُوا أهْبةَ غَزْوهم فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتابُ حافظٍ ـ يريد بذلك الدّيوان ـ قال كعب: فقَلّ رجل يريد أن يتغيّب، يظن أن ذلك سيَخْفَى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظِّلال؛ فأنا إليها أَصْعر، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفِقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقضِ شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت! فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غازياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل كذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو؛ فهَمَمْت أن أرتحل فأُدركَهم، فيا ليتني فعلت! ثم لم يقدَّر ذلك لي فطفِقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزُنُني أنّي لا أرى لي أسوةً إلا رجلاً مغْمُوصا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عَذَر اللَّهُ من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سَلمة: يا رسول الله، حبسه برداه والنظر في عطْفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبينما هو على ذلك رأى رجلاً مُبَيِّضاً يزول به السَّراب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خَيْثمة؛ فإذا هو أبو خيثمة الأنصاريّ، وهو الذي تصدّق بصاع التمر حتى لَمَزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بَثِّي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سَخطه غداً، وأستعين على ذلك كلَّ ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادماً زاح عني الباطل حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً، فأجمعت صِدْقه، وصبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادماً، وكان إذا قدِم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفِقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووَكَل سرائرهم إلى الله، حتى جئت فلما سلّمت تبسم تبسُّم المُغْضَب، ثم قال: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلّفك ألم تكن قد ٱبتعت ظهرك؟ قال: قلت يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر؛ ولقد أُعطِيت جَدَلاً، ولكني والله لقد علمت لئن حدّثتك اليومَ حديث كذب تَرْضَى به عني ليُوشِكَنّ اللَّهُ أن يسخطك عليّ، ولئن حدّثتك حديث صدق تجِد عليّ فيه إنّي لأرجو فيه عُقْبَى اللَّهِ، واللَّهِ ما كان لي عذر، واللَّهِ ما كنت قطُّ أقْوَى ولا أيسَر منّي حين تخلّفت عنك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا هذا فقد صدق فقُم حتى يقضِيَ اللَّهُ فيك. فقمت وثار رجال من بني سَلمة فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنباً قبل هذا! لقد عَجَزْت في ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المتخلِّفون، فقد كان كافيك ذنبَك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك!. قال: فوالله ما زالوا يؤنّبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُكذّب نفسي. قال: ثم قلت لهم هل لَقَى هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم! لقِيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال قلت: من هما؟ قالوا: مُرارة ابن ربيعة العامِريّ وهلال بن أُمية الواقفيّ. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة؛ قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيّها الثلاثةُ من بين من تخلّف عنه. قال: فاجتنبنَا الناسُ، وقال: وتغيّروا لنا، حتى تنكّرت لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة؛ فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشَبَّ القومِ وأجْلَدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام أم لا! ثم أُصلِّي قريباً منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليّ وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين مَشَيْتُ حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمّي وأحبّ الناس إليّ فسلمت عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلام، فقلت له: يا أبا قتادة أنْشُدُك بالله! هل تعلَمنَّ أني أُحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعُدت فناشدته فسكت، فعدت فناشدته فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتولّيت حتى تسوّرت الجدار، فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من نَبَط أهلِ الشام ممن قَدِم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفِقَ الناس يُشيرون له إلي حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من مَلِك غَسّانَ، وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه: أما بعد! فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلْك الله بدار هَوَانٍ ولا مَضْيَعَة فَالْحَقْ بنا نُواسك. قال فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء! فتياممت بها التنُّورَ فَسَجَرْته بها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين واستلْبَثَ الوَحْيُ إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل ٱمرأتك. قال فقلت: أُطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل ٱعتزلها فلا تقربَنّها. قال: فأرسل إلى صَاحِبِيّ بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: ٱلْحَقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت ٱمرأة هلال بن أُمية رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أُميّة شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخْدُمَه؟ قال: لا ولكن لا يقربَنّكِ فقالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء! ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال بعض أهلي لو استأذنتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أُمية أن تخدُمَه. قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يُدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب! قال: فلبِثت بذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نُهِيَ عن كلامنا. قال: ثم صلّيت صلاة الفجر صباحَ خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رَحُبت سمعت صوت صارخ أوْفَى على سَلْع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبْشِر. قال: فَخَرَرْت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج. قال: فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلّى صلاة الفجر؛ فذهب الناس يبشروننا، فذهب قِبل صاحبَيّ مُبَشِّرون، وركض رجل إليّ فرساً، وسعى ساعٍ من أسْلَم قبلي وأوْفَى الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس؛ فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يبشّرني نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشارته، واللَّهِ ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، فٱنطلقت أتأمَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يُهنّئونني بالتوبة ويقولون: لتَهْنِئْك توبةُ الله عليك، حتى دخلتُ المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحوله الناس؛ فقام طلحة بن عبيد الله يُهرول حتى صافحني وهنّأني، واللَّهِ ما قام رجل من المهاجرين غيرُه. قال: فكان كعبٌ لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يَبْرُق وجهه من السرور ويقول: أبشِر بخيرِ يومٍ مرّ عليك منذ ولدتك أُمّك. قال: فقلت أمن عند الله يا رسول الله أمن من عندك؟ قال: لا بل من عند الله. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعةُ قَمَر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبة الله عليّ أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسِك عليك بعضَ مالك فهو خير لك. قال فقلت: فإني أمسك سَهْمِيَ الذي بخَيْبَر. قال وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحَدِّث إلا صدقاً ما بَقِيت. قال: فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدقِ الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسنَ مما أبلاني الله به، والله ما تعمّدت كذِبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو الله أن يَحفظني فيما بَقِيَ" ؛ فأنزل الله عز وجل: { لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِيِّ وَٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنصَارِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ } ـ حتى بلغ ـ { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ. وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ ٱلَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } ـ حتى بلغ ـ { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ }. قال كعب: واللَّهِ ما أنعم الله عليّ من نعمة قطُّ بعد إذ هداني الله للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ أكون كَذَبْتُه فأهْلِك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوَحْيَ شَرّ ما قال لأحد، وقال الله تعالى: { سَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ إِذَا ٱنْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَرْضَىٰ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ }. قال كعب: كنا خلّفْنا أيها الثلاثةُ عن أمرِ أُولئك الذين قَبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حَلَفُوا له فبايَعهم وٱستغفرَ لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل: { وَعَلَى ٱلثَّلاَثَةِ }، وليس الذي ذَكر الله مما خُلِّفْنا تَخَلُّفَنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له وٱعتذر إليه فقَبِل منه.

قوله تعالى: { ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أي بما ٱتسعت؛ يقال: منزل رَحْب ورحِيب ورُحاب. و «ما» مصدرية؛ أي ضاقت عليهم الأرض برَحْبها، لأنهم كانوا مهجورين لا يعامَلون ولا يكلَّمون. وفي هذا دليل على هِجران أهل المعاصي حتى يتوبوا.

قوله تعالى: { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } أي ضاقت صدورهم بالهمّ والوحشة، وبما لقوه من الصحابة من الجفوة. { وَظَنُّوۤاْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } أي تيقنوا أن لا ملجأ يلجئون إليه في الصفح عنهم وقبول التوبة منهم إلا إليه. قال أبو بكر الورّاق: التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رَحُبت، وتضيق عليه نفسه؛ كتوبة كعب وصاحبيه.

قوله تعالى: { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } فبدأ بالتوبة منه. قال أبو زيد: غَلِطت في أربعة أشياء: في الابتداء مع الله تعالى، ظننت أني أُحبّه فإذا هو أحبّني؛ قال الله تعالى: { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }. وظننت أني أرضى عنه فإذا هو قد رضِي عني؛ قال الله تعالى: { رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ }. وظننت أني أذكره فإذا هو يذكرني؛ قال الله تعالى: { وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ }. وظننت أني أتوب فإذا هو قد تاب عليّ؛ قال الله تعالى: { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ }. وقيل: المعنى ثم تاب عليهم ليثبتوا على التوبة؛ كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [النساء: 136] وقيل: أي فسح لهم ولم يعجل عقابهم كما فعل بغيرهم؛ قال جل وعز: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء: 160]