خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٨
وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٣٩
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ
٤٠
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
٤١
وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٤٢
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ
٤٣
يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٤٤
وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤٥
لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤٦
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ
٤٨
وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ
٤٩
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٥٠
-النور

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ فِي بُيُوتٍ } متعلق بما قبله أي كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بيوت فيكون تقييد للممثل به بما يكون تحبيراً ومبالغة فيه فإن قناديل المساجد تكون أعظم، أو تمثيلاً لصلاة المؤمنين أو أبدانهم بالمساجد، ولا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة ولا كثرة أو بما بعده وهو يسبح، وفيها تكرير مؤكد لا بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله أو بمحذوف مثل سبحوا في بيوت، والمراد بها المساجد لأن الصفة تلائمها. وقيل المساجد الثلاثة والتنكير للتعظيم. { أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ } بالبناء أو التعظيم. { وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ } عام فيما يتضمن ذكره حتى المذاكرة في أفعاله والمباحثة في أحكامه. { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ } ينزهونه أي يصلون له فيها بالغدوات والعشيات، والغدو مصدر أطلق للوقت ولذلك حسن اقترانه بالآصال وهو جمع أصيل، وقرىء «والايصال» وهو الدخول في الأصيل وقرأ ابن عامر وأبو بكر «يسبح» بالفتح على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة ورفع رجال بما يدل عليه، وقرىء تسبح بالتاء مكسوراً لتأنيث الجمع ومفتوحاً على إسناده إلى أوقات الغدو.

{ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـٰرَةٌ } لا تشغلهم معاملة رابحة. { وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } مبالغة بالتعميم بعد التخصيص إن أريد به مطلق المعارضة، أو بإفراد ما هو الأهم من قسمي التجارة فإن الربح يتحقق بالبيع ويتوقع بالشراء، وقيل المراد بالتجارة الشراء فإنه أصلها ومبدؤها، وقيل الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا إذا جلبه وفيه إيماء بأنهم تجار. { وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةَ } عوض فيه الإِضافة من التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإِعلال كقوله:

وَأَخْلَفُـوكَ عـد الأَمـرِ الَّـذِي وَعَـدُوا

{ وَإِيتَاء ٱلزَّكَـوٰةِ } ما يجب إخراجه من المال للمستحقين. { يَخَـٰفُونَ يَوْماً } مع ما هم عليه من الذكر والطاعة. { تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَـٰرُ } تضطرب وتتغير من الهول، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصره، أو تتقلب القلوب مع توقع النجاة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتى كتبهم.

{ لِيَجْزِيَهُمُ ٱللَّهُ } متعلق بيسبح أو لا تلهيهم أو يخافون. { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنة. { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم ولم تخطر ببالهم. { وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقرير للزيادة وتنبيه على كمال القدرة ونفاذ المشيئة وسعة الإِحسان.

{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } والذين كفروا حالهم على ضد ذلك فإن أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري، والقيعة بمعنى القاع وهو الأرض الخالية عن النبات وغيره المستوية، وقيل جمعه كجار وجيرة وقرىء «بقيعات» كديمات في ديمة. { يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَاءً } أي العطشان وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس الحاجة. { حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ } جاء ما توهمه ماء أو موضعه. { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } مما ظنه. { وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ } عقابه أو زبانيته أو وجده محاسباً إياه. { فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ } استعراضاً أو مجازاة. { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } لا يشغله حساب عن حساب. روي أنها نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية تعبد في الجاهلية والتمس الدين فلما جاء الإِسلام كفر.

{ أَوْ كَظُلُمَـٰتٍ } عطف على { كَسَرَابٍ } و { أَوْ } للتخيير فإن أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، ولكونها خالية عن نور الحق كالظلمات المتراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب، أو للتنويع فإن أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة. { فِي بَحْرٍ لُّجّيّ } ذي لج أي عميق منسوب إلى اللج وهو معظم الماء. { يَغْشَـٰهُ } يغشى البحر. { مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ } أي أمواج مترادفة متراكمة. { مّن فَوْقِهِ } من فوق الموج الثاني. { سَحَابٌ } غطى النجوم وحجب أنوارها، والجملة صفة أخرى للـ { بَحْرٍ }. { ظُلُمَـٰتِ } أي هذه ظلمات. { بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } وقرأ ابن كثير { ظُلُمَـٰتِ } بالجر على إبدالها من الأولى أو بإضافة الـ { سَحَابٌ } إليها في رواية البزي. { إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ } وهي أقرب ما يرى إليه. { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } لم يقرب أن يراها فضلاً أن يراها كقول ذي الرمة:

إِذَا غَيَّرَ النَّأَي المُحِبِّينَ لَمْ يَكد رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

والضمائر للواقع في البحر وإن لم يجر ذكره لدلالة المعنى عليه. { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً } ومن لم يقدر له الهداية. لم يوفقه لأسبابها. { فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } خلاف الموفق الذي له نور على نور.

{ أَلَمْ تَرَ } ألم تعلم علماً يشبه المشاهدة في اليقين والوثاقة بالوحي أو الاستدلال. { أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ينزه ذاته عن كل نقص وآفة أهل السموات والأرض، و { مِنْ } لتغليب العقلاء أو الملائكة والثقلان بما يدل عليه من مقال أو دلالة حال. { وَٱلطَّيْرُ } على الأول تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر والدليل الباهر ولذلك قيدها بقوله: { صَافَّـٰتٍ } فإن إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجو باسطة أجنحتها بما فيها من القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرة الصانع تعالى ولطف تدبيره. { كُلٌّ } كل واحد مما ذكر أو من الطير. { قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي قد علم الله دعاءه وتنزيهه اختياراً أو طبعاً لقوله: { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } أو علم كل على تشبيه حاله في الدلالة على الحق والميل إلى النفع على وجه يخصه بحال من علم ذلك مع أنه لا يبعد أن يلهم الله تعالى الطير دعاء وتسبيحاً كما ألهمها علوماً دقيقة في أسباب تعيشها لا تكاد تهتدي إليها العقلاء. { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } فإنه الخالق لهما وما فيهما من الذوات والصفات والأفعال من حيث إنها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب. { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } مرجع الجميع.

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً } يسوقه ومنه البضاعة المزجاة فإنه يزجيها كل أحد. { ثُمَّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ } بأن يكون قزعاً فيضم بعضه إلى بعض، وبهذا الاعتبار صح بينه إذ المعنى بين أجزائه، وقرأ نافع برواية ورش «يولف» غير مهموز. { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } متراكماً بعضه فوق بعض. { فَتَرَى ٱلْوَدْقَ } المطر. { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } من فتوقه جمع خلل كجبال في جبل، وقرىء من «خلله». { وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَاء } من الغمام وكل ما علاك فهو سماء. { مِن جِبَالٍ فِيهَا } من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها. { مِن بَرَدٍ } بيان للجبال والمفعول محذوف أي { يُنَزّلٍ } مبتدأ { مِنَ ٱلسَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } برداً، ويجوز أن تكون من الثانية أو الثالثة للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد كما في الأرض جبال من حجر، وليس في العقل قاطع يمنعه والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبقة الباردة من الهواء وقوي البرد هناك اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجاً وإِلا نزل برداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض وينعقد سحاباً. ينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك لا بد أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالها وأوقاتها وإليها أشار بقوله: { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عن مَن يَشَاء } والضمير للـ { بَرَدٍ }. { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ } ضوء برقه، وقرىء بالمد بمعنى العلو وبإدغام الدال في السين و { بَرْقِهِ } بضم الباء وفتح الراء وهو جمع برقة وهي المقدار من البرق كالغرفة وبضمها للاتباع. { يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَـٰرِ } بأبصار الناظرين إليه من فرط الإِضاءة وذلك أقوى دليل على كمال قدرته من حيث إنه توليد للضد من الضد، وقرىء { يَذْهَبُ } على زيادة الباء.

{ يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } بالمعاقبة بينهما أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور أو بما يعم ذلك. { إِنَّ فِى ذَلِكَ } فيما تقدم ذكره. { لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَـٰرِ } لدلالة على وجود الصانع القديم وكمال قدرته وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته وتنزهه عن الحاجة وما يفضي إليها لمن يرجع إلى بصيرة.

{ وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ } حيوان يدب على الأرض. وقرأ حمزة والكسائي «خالق كل دابة» بالإِضافة. { مِن مَّاء } هو جزء مادته، أو ماء مخصوص هو النطفة فيكون تنزيلاً للغالب منزلة الكل إذ من الحيوانات ما يتولد عن النطفة، وقيل { مِن مَّاء } متعلق بـ { دَابَّةٍ } وليس بصلة لـ { خلقَ }. { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ } كالحية وإنما سمي الزحف مشياً على الاستعارة أو المشاكلة. { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ } كالإِنس والطير. { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } كالنعم والوحش ويندرج فيه ما له أكثر من أربع كالعناكب فإن اعتمادها إذا مشت على أربع، وتذكير الضمير لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف ليوافق التفصيل الجملة والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة. { يَخْلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء } مما ذكر ومما لم يذكر بسيطاً ومركباً على اختلاف الصور والأعضاء والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفعال مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته. { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فيفعل ما يشاء.

{ لَّقَدْ أَنزَلْنَا ءَايَـٰتٍ مُّبَيّنَـٰتٍ } للحقائق بأنواع الدلائل. { وَٱللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء } بالتوفيق للنظر فيها والتدبر لمعانيها. { إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } هو دين الإِسلام الموصل إلى درك الحق والفوز بالجنة.

{ وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ } نزلت في بشر المنافق خاصم يهودياً فدعاه إلى كعب بن الأشرف وهو يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل في مغيرة بن وائل خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض فأبى أن يحاكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. { وَأَطَعْنَا } أي وأطعناهما. { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ } بالامتناع عن قبول حكمه. { فَرِيقٌ مّنْهُمْ مّن بَعْدِ ذٰلِكَ } بعد قولهم هذا. { وَمَا أُوْلَٰـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } إشارة إلى القائلين بأسرهم فيكون إعلاماً من الله تعالى بأن جميعهم وإن آمنوا بلسانهم لم تؤمن قلوبهم، أو إلى الفريق منهم وسلب الإيمان عنهم لتوليهم، والتعريف فيه للدلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفتهم وهم المخلصون في الإِيمان والثابتون عليه.

{ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } أي ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه الحاكم ظاهراً والمدعو إليه، وذكر الله لتعظيمه والدلالة على أن حكمه صلى الله عليه وسلم في الحقيقة حكم الله تعالى { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } فاجأ فريق منهم الإِعراض إذا كان الحق عليهم لعلمهم بأنك لا تحكم لهم، وهو شرح للتولي ومبالغة فيه.

{ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ } أي الحكم لا عليهم. { يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } منقادين لعلمهم بأنه يحكم لهم، و { إِلَيْهِ } صلة لـ { يَأْتُواْ } أو لـ { مُذْعِنِينَ } وتقديمه للاختصاص.

{ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } كفر أو ميل إلى الظلم. { أَمِ ٱرْتَابُواْ } بأن رأوا منك تهمة فزال يقينهم وثقتهم بك. { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } في الحكومة. { بَلْ أُوْلَٰـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } إضراب عن القسمين الأخيرين لتحقيق القسم فتعين الأول، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم أو متوقعاً وكلاهما باطل، لأن منصب نبوته وفرط أمانته صلى الله عليه وسلم يمنعه فتعين الأول وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف والفصل لنفي ذلك عن غيرهم سيما المدعو إلى حكمه.