خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ
١٦٧
ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ
١٦٨
وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
١٦٩
فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١٧٠
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٧١
ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٢
ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ
١٧٣
-آل عمران

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ } وليتميز المؤمنون والمنافقون فيظهر إيمان هؤلاء وكفر هؤلاء. { وَقِيلَ لَهُمْ } عطف على نافقوا داخل في الصلة أو كلام مبتدأ. { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدْفَعُواْ } تقسيم للأمر عليهم وتخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس والأموال. وقيل معناه قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيرهم سواد المجاهدين، فإن كثرة السواد مما يروع العدو ويكسر منه. { قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَـٰكُمْ } لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم فيه لكن ما أنتم عليه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة، أو لو نحسن قتالاً لاتبعناكم فيه، وإنما قالوه دغلاً واستهزاء. { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـٰنِ } لانخذالهم وكلامهم هذا فإنهما أول أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، إذ كان انخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلاً للمؤمنين. { يَقُولُونَ بِأَفْوٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } يظهرون خلاف ما يضمرون، لا تواطىء قلوبهم ألسنتهم بالإِيمان. وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتصوير. { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } من النفاق. وما يخلوا به بعضهم إلى بعض فإنه يعلمه مفصلاً بعلم واجب وأنتم تعلمونه مجملاً بأمارات.

{ ٱلَّذِينَ قَالُواْ } رفع بدلاً من واو { يَكْتُمُونَ }، أو نصب على الذم أو الوصف للذين نافقوا، أو جر بدلاً من الضمير في { بِأَفْوٰهِهِم } أو { قُلُوبِهِمْ } كقوله:

عَلَى حَالةٍ لَوْ أَنَّ فِي القَوْمِ حَاتِما عَلَى جُودِهِ لضَنَّ بِالمَاءِ حَاتِمُ

{ لإِخْوٰنِهِمْ } أي لأجلهم، يريد من قتل يوم أحد من أقاربهم أو من جنسهم. { وَقَعَدُواْ } حال مقدرة بقد أي قالوا قاعدين عن القتال. { لَوْ أَطَاعُونَا } في القعود بالمدينة. { مَا قُتِلُوا } كما لم نقتل. وقرأ هشام { مَا قُتِلُوا } بتشديد التاء. { قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } أي إن كنتم صادقين إنكم تقدرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه، فإنه أحرى بكم، والمعنى أن القعود غير مغن عن الموت، فإن أسباب الموت كثيرة كما أن القتال يكون سبباً للهلاك والقعود سبباً للنجاة قد يكون الأمر بالعكس.

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوٰتاً } نزلت في شهداء أحد. وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. وقرىء بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا. والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة. وقرأ ابن عامر قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين. { بَلْ أَحْيَاء } أي بل هم أحياء. وقرىء بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء { عِندَ رَبّهِمْ } ذوو زلفى منه. { يُرْزَقُونَ } من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء.

{ فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والقرب من الله تعالى والتمتع بنعيم الجنة. { وَيَسْتَبْشِرُونَ } يسرون بالبشارة. { بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } أي بإخوانهم المؤمنين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. { مّنْ خَلْفِهِمْ } أي الذين من خلفهم زماناً أو رتبة. { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل من الذين والمعنى: إنهم يستبشرون بما تبين لهم من أمر الآخرة وحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين، وهو إنهم إذا ماتوا أو قتلوا كانوا أحياء حياة لا يكدرها خوف وقوع محذور، وحزن فوات محبوب. والآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن، ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه، ويؤيد ذلك قوله تعالى في آل فرعون { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } [غافر: 46] الآية وما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال "أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة في ظل العرش" ومن أنكر ذلك ولم ير الروح إلا ريحاً وعرضاً قال هم أحياء يوم القيامة، وإنما وصفوا به في الحال لتحققه ودنوه أو أحياء بالذكر أو بالإيمان. وفيها حث على الجهاد وترغيب في الشهادة وبعث على ازدياد الطاعة وإحماد لمن يتمنى لإِخوانه مثل ما أنعم عليه، وبشرى للمؤمنين بالفلاح.

{ يَسْتَبْشِرُونَ } كرره للتأكيد وليعلق به ما هو بيان لقوله: { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } ويجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم وهذا بحال أنفسهم. { بِنِعْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ } ثواباً لأعمالهم. { وَفَضْلٍ } زيادة عليه كقوله تعالى: { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] وتنكيرهما للتعظيم. { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } من جملة المستبشر به عطف على فضل. وقرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك أجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة.

{ ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَـٰبَهُمُ ٱلْقَرْحُ } صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح أو مبتدأ خبره. { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } بجملته ومن البيان، والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل لا التقييد، لأن المستجيبين كلهم محسنون متقون. روي "أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب أصحابه للخروج في طلبه وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، فخرج عليه الصلاة والسلام مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد ـ وهي ثمانية أميال من المدينة ـ وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا" فنزلت.

{ ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } يعني الركب الذين استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي، وأطلق عليه الناس لأنه من جنسهم كما يقال فلان يركب الخيل وماله إلا فرس واحد لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه. { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ } يعني أبا سفيان وأصحابه روي: أنه نادى عند انصرافه من أحد: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام: " إن شاء الله تعالى" ، فلما كان القابل خرج في أهل مكة حتى نزل بمر الظهران فأنزل الله الرعب في قلبه وبدا له أن يرجع، فمر به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين. وقيل: لقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمراً فسأله ذلك والتزم له عشراً من الإِبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد افترون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم ففتروا، فقال عليه السلام: " والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد " فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون حسبنا الله. { فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً } الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله أن أريد به نعيم وحده، والبارز للمقول لهم والمعنى: إنهم لم يلتفتوا إليه ولم يضعفوا بل ثبت به يقينهم بالله وازداد إيمانهم وأظهروا حمية الإِسلام وأخلصوا النية عنده، وهو دليل على أن الإِيمان يزيد وينقص ويعضده قول ابن عمر رضي الله عنهما "قلنا يا رسول الله الإِيمان يزيد وينقص، قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار" وهذا ظاهر إن جعل الطاعة من جملة الإِيمان وكذا إن لم تجعل فإن اليقين يزداد بالإِلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج. { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ } محسبنا وكافينا، من أحسبه إذا كفاه ويدل على أنه بمعنى المحسب إنه لا يستفيد بالإِضافة تعريفاً في قولك هذا رجل حسبك. { وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } ونعم الموكول إليه هو فيه.