خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ
٤٥
وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٤٦
قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
٤٧
وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ
٤٨
وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
٤٩
وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ
٥٠
إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٥١
فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
٥٢
رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ
٥٣
وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٥٤
-آل عمران

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـئِكَةُ } بدل من { إِذْ قَالَتِ } الأولى وما بينهما اعتراض، أو من { إِذْ يَخْتَصِمُونَ } على أن وقوع الاختصام والبشارة في زمان متسع كقولك لقيته سنة كذا. { يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ } المسيح لقبه وهو من الألقاب المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا معناه: المبارك، وعيسى معرب ايشوع واشتقاقهما من المسح لأنهما مسح بالبركة أو بما طهره من الذنوب، أو مسح الأرض ولم يقم في موضع، أو مسحه جبريل، ومن العيس وهو بياض يعلوه حمرة، تكلف لا طائل تحته، وابن مريم لما كان صفة تميز تمييز الأسماء نظمت في سلكها، ولا ينافي تعدد الخبر وإفراد المبتدأ فإنه اسم جنس مضاف ويحتمل أن يراد به أن الذي يعرف به ويتميز عن غيره هذه الثلاثة، فإن الإِسم علامة المسمى والمميز له ممن سواه ويجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف وابن مريم صفته، وإنما قيل ابن مريم والخطاب لها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب. { وَجِيهًا فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلأَخِرَةِ } حال مقدرة من كلمة وهي وإن كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره للمعنى، والوجاهة في الدنيا النبوة وفي الآخرة الشفاعة { وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } من الله، وقيل إشارة إلى علو درجته في الجنة أو رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة.

{ وَيُكَلّمُ ٱلنَّاسَ فِى ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } أي يكلمهم حال كونه طفلاً وكهلاً، كلام الأنبياء من غير تفاوت. والمهد مصدر سمي به ما يمهد للصبي في مضجعه. وقيل إنه رفع شاباً والمراد وكهلاً بعد نزوله، وذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشاداً إلى أنه بمعزل عن الألوهية { وَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } حال ثالث من كلمة أو ضميرها الذي في يكلم.

{ قَالَتْ رَبّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } تعجب، أو استبعاد عادي، أو استفهام عن أنه يكون بتزوج أو غيره. { قَالَ كَذٰلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء } القائل جبريل، أو الله تعالى وجبريل حكى لها قول الله تعالى. { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } إشارة إلى أنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرجاً بأسباب ومواد يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك.

{ وَيُعَلّمُهُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ } كلام مبتدأ ذكر تطييباً لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم لما علمت أنها تلد من غير زوج، أو عطف على يبشرك، أو وجيهاً و { ٱلْكِتَـٰبَ } الكتبة أو جنس الكتب المنزلة. وخص الكتابان لفضلهما. وقرأ نافع وعاصم { وَيُعَلّمُهُ } بالياء.

{ وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِى إِسْرٰءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } منصوب بمضمر على إرادة القول تقديره: ويقول أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، أو بالعطف على الأحوال المتقدمة مضمناً معنى النطق فكأنه قال: وناطقاً بأني قد جئتكم، وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم أو للرد على من زعم أنه مبعوث إلى غيرهم. { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ ٱلطّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ } نصب بدل من أني قد جئتكم، أو جر بدل من آية، أو رفع على هي أني أخلق لكم والمعنى: أقدر لكم وأصور شيئاً مثل صورة الطير، وقرأ نافع { إِنّى } بالكسر { فَأَنفُخُ فِيهِ } الضمير للكاف أي في ذلك الشيء المماثل. { فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ ٱللَّهِ } فيصير حياً طياراً بأمر الله، نبه به على أن إحياءه من الله تعالى لا منه. وقرأ نافع هنا وفي المائدة «طائراً» بالألف والهمزة. { وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وَٱلأَبْرَصَ } الأكمه الذي ولد أعمى أو الممسوح العين. روي: أنه ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداوي إلا بالدعاء. { وَأُحيِي المَوْتَى بِإِذْنِ الله } كرر بإذن الله دفعاً لتوهم الألوهية، فإن الإِحياء ليس من جنس الأفعال البشرية. { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها. { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } موفقين للإِيمان فإن غيرهم لا ينتفع بالمعجزات، أو مصدقين للحق غير معاندين.

{ وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } عطف على { رَسُولاً } على الوجهين، أو منصوب بإضمار فعل دل عليه { قَدْ جِئْتُكُم } أي وجئتكم مصدقاً. { وَلأُحِلَّ لَكُم } مقدر بإضماره، أو مردود على قوله: { أَنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ }، أو معطوف على معنى { مُصَدّقاً } كقولهم جئتك معتذراً ولأطيب قلبك. { بَعْضَ ٱلَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُم } أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام كالشحوم والثروب والسمك ولحوم الإِبل والعمل في السبت، وهو يدل على أن شرعه كان ناسخاً لشرع موسى عليه الصلاة والسلام ولا يخل ذلك بكونه مصدقاً للتوراة، كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض وتكاذب، فإن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ }.

{ إِنَّ ٱللَّهَ رَبّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي جئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربكم وهو قوله: { إِنَّ ٱللَّهَ رَبّي وَرَبُّكُمْ } فإنه دعوة الحق المجمع عليها فيما بين الرسل الفارقة بين النبي والساحر، أو جئتكم بآية على أن الله ربي وربكم وقوله: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } اعتراض والظاهر أنه تكرير لقوله: { قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم، والأول لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى: { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } أي لما جئتكم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعون فيما أدعوكم إليه، ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال: { إِنَّ ٱللَّهَ رَبّي وَرَبُّكُمْ } إشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقال: { فَٱعْبُدُوهُ } إشارة إلى استكمال القوة العلمية فإنه بملازمة الطاعة التي هي الإِتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، ثم قرر ذلك بأن بين أن الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام "قل آمنت بالله ثم استقم" .

{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ } تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدرك بالحواس. { قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } ملتجئاً إلى الله تعالى أو ذاهباً أو ضاماً إليه، ويجوز أن يتعلق الجار بـ { أَنصَارِي } مضمناً معنى الإِضافة، أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله تعالى في نصري. وقيل إلـى هـا هنا بمعنى (مع) أو (في) أو (اللام). { قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ } حواري الرجل خاصته من الحور وهو البياض الخالص، ومه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن. سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نيتهم ونقاء سريرتهم. وقيل كانوا ملوكاً يلبسون البيض استنصر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام من اليهود. وقيل قصارين يحورون الثياب أي يبيضونها. { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } أي أنصار دين الله. { آمنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.

{ رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ } أي مع الشاهدين بوحدانيتك، أو مع الأنبياء الذين يشهودن لأتباعهم، أو مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم شهداء على الناس.

{ وَمَكَرُواْ } أي الذين أحس منهم الكفر من اليهود بأن وكلوا عليه من يقتله غيلة. { وَمَكَرَ ٱللَّهُ } حين رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل. والمكر من حيث إنه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يسند إلى الله تعالى إلا على سبيل المقابلة والإِزدواج. { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ } أقواههم مكراً وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.