{ قُل لاَّ تُسْـئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْـئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } هذا أدخل في الإِنصاف وأبلغ في الإِخباث حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل إلى المخاطبين.
{ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } يوم القيامة. { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقّ } يحكم ويفصل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار. { وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ } الحاكم الفاصل في القضايا المتغلقة. { ٱلْعَلِيمُ } بما ينبغي أن يقضى به.
{ قُلْ أَرُونِىَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ } لأرى بأي صفة ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة، وهو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم. { كَلاَّ } ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة. { بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ } الموصوف بالغلبة وكمال القدرة والحكمة، وهؤلاء الملحقون به متسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم والقدرة رأساً، والضمير لله أو للشأن.
{ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } إلا إرسالة عامة لهم من الكف فإنها إذا عمتهم قد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلا جامعاً لهم في الإِبلاغ فهي حال من الكاف والتاء للمبالغة، ولا يجوز جعلها حالاً من الناس على المختار. { بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
{ وَيَقُولُونَ } من فرط جهلهم. { مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله تعالى:
{ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } [سبأ: 26] { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } يخاطبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. { قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ } وعد يوم أو زمان وعد، وإضافته إلى اليوم للتبيين ويؤيده أنه قرىء { يَوْمٍ } على البدل، وقرىء { يَوْمٍ } بإضمار أعني. { لاَّ تَسْتَـئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } إذا فاجأكم وهو جواب تهديد جاء مطابقاً لما قصدوه بسؤالهم من التعنت والإِنكار.
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْءانِ وَلاَ بِٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ } ولا بما تقدمه من الكتب الدالة على النعت. قيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا وقالوا ذلك، وقيل الذي بين يديه يوم القيامة. { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ } أي في موضع المحاسبة. { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ } يتحاورون ويتراجعون القول. { يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ } يقول الأتباع. { لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ } للرؤساء. { لَوْلاَ أَنتُمْ } لولا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإِيمان. { لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإِيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى وآثروا التقليد عليه، ولذلك بنوا الإِنكار على الإِسم.
{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } إضراب عن إضرابهم أي: لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً حتى أعورتم علينا رأينا. { إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } والعاطف يعطفه على كلامهم الأول وإضافة الـ { مَكَرَ } إلى الظرف على الاتساع، وقرىء { مَكْرَ ٱلَّيْلِ } بالنصب على المصدر و { مَكْرُ ٱلَّيْلِ } بالتنوين ونصب الظرف و { مَكْرُ ٱلَّيْلِ } من الكرور. { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } وأضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير، أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب كما في أشكيته. { وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلَـٰلَ فِى أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويهاً بذمهم وإشعاراً بموجب أغلالهم. { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم، وتعدية يجزي إما لتضمين معنى يقضي أو بنزع الخافض.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما مني به من قومه، وتخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي المعظم إليه التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والانهماك في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها، ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب فقالوا: { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ } على مقابلة الجمع بالجمع.
{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوٰلاً وَأَوْلَـٰداً } فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن. { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } إما لأن العذاب لا يكون، أو لأنه أكرمنا بذلك فلا يهيننا بالعذاب.
{ قُلْ } رداً لحسبانهم. { إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } ولذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يوجبانه لم يكن بمشيئته. { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال:
{ وَمَا أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ بِٱلَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ } قربة والتي إما لأن المراد وما جماعة أموالكم وأولادكم، أو لأنها صفة محذوف كالتقوى والخصلة. وقرىء «بالذي» أي بالشيء الذي يقربكم. { إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } استثناء من مفعول { تُقَرّبُكُمْ }، أي الأموال والأولاد لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح، أو من { أَمْوٰلَكُمْ } و { أَوْلَـٰدُكُمْ } على حذف المضاف. { فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاُ ٱلضّعْفِ } أن يجازوا الضعف إلى عشر فما فوقه، والإِضافة إضافة المصدر إلى المفعول، وقرىء بالأعمال على الأصل وعن يعقوب رفعهما على إبدال الضعف، ونصب الجزاء على التمييز أو المصدر لفعله الذي دل عليه لهم. { بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ٱلْغُرُفَـٰتِ ءامِنُونَ } من المكاره، وقرىء بفتح الراء وسكونها، وقرأ حمزة «في الغرفة» على إرادة الجنس.
{ وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِى ءَايَـٰتِنَا } بالرد والطعن فيها. { مُعَـٰجِزِينَ } مسابقين لأنبيائنا أو ظانين أنهم يفوتوننا. { أُوْلَـئِكَ فِى ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ }.
{ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } يوسع عليه تارة ويضيق عليه أخرى، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق في شخصين فلا تكرير. { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } عوضاً إما عاجلاً أو آجلاً. { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرزِقِينَ } فإن غيره وسط في إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته.
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } المستكبرين والمستضعفين. { ثُمَّ نَقُولُ لِلْمَلَـٰئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } تقريعاً للمشركين وتبكيتاً لهم وإقناطاً لهم عما يتوقعون من شفاعتهم، وتخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم والصالحون للخطاب منهم، ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله. وقرأ حفص ويعقوب بالياء فيهما.