خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُوۤءِ وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
١٦٥
فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
١٦٦
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٦٧
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٦٨
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٦٩
وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٧٠
وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧١
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ
١٧٢
أَوْ تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ
١٧٣
وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٧٤
وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ۤ ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ
١٧٥
-الأعراف

انوار التنزيل واسرار التأويل

{ فَلَمَّا نَسُواْ } تركوا ترك الناسي. { مَا ذُكّرُواْ بِهِ } ما ذكرهم به صلحاؤهم. { أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } بالاعتداء ومخالفة أمر الله. { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤساً إذا اشتد. وقرأ أبو بكر "بيئس" على فيعل كضيغم، وابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمز على أنه بئس كحذر، كما قرىء به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد، وقرأ نافع "بيس" على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذئب أو على أنه فعل الذم وصف به فجعل اسماً، وقرىء "بيس" كريس على قلب الهمزة ثم ادغامها و"بيس" بالتخفيف كهين وبائس كفاعل. { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } بسبب فسقهم.

{ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ } تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى: { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } [الأعراف: 77] { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ } كقوله: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى. روي: أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يوماً ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا: إن لهم شأناً فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسباءهم ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث. وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم.

{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإِيعاد، أو عزم لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله فأجرى مجرى فعل القسم { كعلم ٱللَّهِ } و { شَهِدَ ٱللَّهُ }. ولذلك أجيب بجوابه وهو: { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود. { مَن يَسُومُهُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ } كالإِذلال وضرب الجزية، بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر. { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ } عاقبهم في الدنيا. { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن تاب وآمن.

{ وَقَطَّعْنَـٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَمًا } وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط و { أُمَمًا } مفعول ثان أو حال. { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } تقديره ومنهم أناس دون ذلك أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم. { وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ } بالنعم والنقم. { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ينهون فيرجعون عما كانوا عليه.

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } من بعد المذكورين. { خَلْفٌ } بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع. وقيل جمع وهو شائع في { وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } التوراة من أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها.{ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ } حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة وعلى تحريف الكلم، والجملة حال من الواو. { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور، أو مصدر يأخذون. { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } حال من الضمير في { لَنَا } أي: يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه. { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ ٱلْكِتَـٰبِ } أي في الكتاب. { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } عطف بيان للميثاق، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب. { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } عطف على { أَلَمْ يُؤْخَذْ } من حيث المعنى فإنه تقرير، أو على { وَرِثُواْ } وهو اعتراض. { وَٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } مما يأخذ هؤلاء. { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين. { وَٱلَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ } عطف على الذين { يَتَّقُونَ } وقوله: { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } اعتراض أو مبتدأ خبره: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } على تقدير منهم، أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على أن الإِصلاح كالمانع من التضييع. وقرأ أبو بكر { يُمَسّكُونَ } بالتخفيف وإفراد الإِقامة لإِنافتها على سائر أنواع التمسكات.

{ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } أي قلعناه ورفعناه فوقهم وأصل النتق الجذب. { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } سقيفة وهي ما أظلك. { وَظَنُّواْ } وتيقنوا. { أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به، وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله الطور فوقهم. وقيل لهم إن قبلتم ما فيها وإلا ليقعن عليكم. { خُذُواْ } على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا. { مَا ءاتَيْنَـٰكُم } من الكتاب. { بِقُوَّةٍ } بجد وعزم على تحمل مشاقه، وهو حال من الواو. { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ } بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي. { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.

{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرناً بعد قرن، و { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل { مِن بَنِى ءادَمَ } بدل البعض. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم». { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا } أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الاقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم: { قَالُواْ بَلَىٰ } فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه بمنزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله: { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي كراهة أن تقولوا. { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ } لم ننبه عليه بدليل.

{ أَوْ تَقُولُواْ } عطف على { أَن تَقُولُواْ }، وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة. { إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ } فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذراً. { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ } يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك. وقيل لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر رضي الله تعالى عنه، وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب «المصابيح»، والمقصود من إيراد هذا الكلام ها هنا الزام اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال:

{ وَكَذٰلِكَ نُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي عن التقليد واتباع الباطل.

{ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ } أي على اليهود. { نَبَأَ ٱلَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } هو أحد علماء بني إسرائيل، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الزمان، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفره به، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله، { فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا } من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها. { فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ } حتى لحقه وقيل استتبعه. { فَكَانَ مِنَ الغَاوِين } فصار من الضالين. روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه فقال: كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه.