خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ
٩٩
أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٠
وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
١٠١
وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيَـٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَٰـقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٢
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٣
-البقرة

تفسير القرآن العظيم

قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَـٰتٍ بَيِّنَـٰتٍ } الآية، أي: أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات، دالات على نبوتك، وتلك الآيات هي ماحواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود، ومكنونات سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة، فأطلع الله الناس عليها في كتابه الذي أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه، ولم يدعها إلى هلاكها الحسد والبغي، إذ كان في فطرة كل ذي فطرة صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر، ولاأخذ شيئاً منه عن آدمي، كما قال الضحاك عن ابن عباس { وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَـٰتٍ بَيِّنَـٰتٍ } يقول: فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية، وبين ذلك، وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتاباً، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه، يقول الله تعالى: لهم في ذلك عبرة وبيان، وعليهم حجة لوكانوا يعلمون. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك، فأنزل الله في ذلك من قوله: { وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ءَايَـٰتٍ بَيِّنَـٰتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقُونَ } وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق، وما عهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم والله ما عهد إلينا في محمد، وما أخذ علينا ميثاقاً، فأنزل الله تعالى: { أَوَكُلَّمَا عَـٰهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم } وقال الحسن البصري: في قوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال: نعم، ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه، يعاهدون اليوم، وينقضون غداً. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: نبذه فريق منهم، أي: نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير: أصل النبذ: الطرح والإلقاء، ومنه سمي اللقيط منبوذاً، ومنه سمي النبيذ، وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء، قال أبو الأسود الدؤلي:

نَظَرْتُ إلى عُنْوانِه فَنَبَذْتُهُكَنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعالِكا

قلت: فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم؛ في التمسك بها، والقيام بحقها، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم، وإلى الناس كافة، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته، كما قال تعالى: { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلأُمِّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ } [الأعراف: 157] الآية، وقال ههنا: { وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } الآية، أي: طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم، أي: تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها، وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه، ولهذا أرادوا كيداً برسول الله صلى الله عليه وسلم وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان، وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له: لبيد بن الأعصم، لعنه الله وقبحه، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وشفاه منه وأنقذه، كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، كما سيأتي بيانه. قال السدي: { وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } قال: لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة، فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والقرآن، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب آصف، وسحر هاروت وماروت، فلم يوافق القرآن، فذلك قوله: { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } وقال قتادة في قوله: { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } قال: إن القوم كانوا يعلمون، ولكنهم نبذوا علمهم، وكتموه وجحدوا به. وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ } الآية، وكان حين ذهب ملك سليمان، ارتد فئات من الجن والإنس، واتبعوا الشهوات، فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه، وقام الناس على الدين كما كان، وأن سليمان ظهر على كتبهم، فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا، فأخذوا به، فجعلوه ديناً، فأنزل الله تعالى: { وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } الآية، واتبعوا الشهوات التي كانت تتلو الشياطين، وهي المعازف واللعب، وكل شيء يصد عن ذكر الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم الأعظم، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان، ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، أخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً، وقالوا: هذا الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبوه، ووقف علماء الناس، فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب سلم بن جنادة السوائي، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئاً من نسائه، أعطى الجرادة، وهي امرأة، خاتمه، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال: هاتي خاتمي، فأخذه ولبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال: فجاءها سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فقالت: كذبت، لست سليمان، قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين، فكتبت في تلك الأيام كتباً فيها سحر وكفر، فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرؤوها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال فبرىء الناس من سليمان، وكفروه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن حصين بن عبد الرحمن، عن عمران، وهو ابن الحارث، قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما، إذ جاء رجل فقال له: من أين جئت؟ قال: من العراق، قال: من أية؟ قال: من الكوفة، قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن علياً خارج إليهم، ففزع، ثم قال: ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه، أما إني سأحدثكم عن ذلك، إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء، فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا جرت منه وصدق، كذب معها سبعين كذبة، قال: فتشربها قلوب الناس، قال: فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام، فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام، قام شيطان الطريق، فقال: هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه، فقال: هذا سحر، فتناسخها الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق، فأنزل الله عز وجل: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } الآية، وروى الحاكم في مستدركه عن أبي زكريا العنبري، عن محمد بن عبد السلام عن إسحق بن إبراهيم عن جرير به. وقال السدي في قوله تعالى: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي على عهد سليمان، قال: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس، فيجدونه كما قالوا، فلما أمنتهم الكهنة، كذبوا لهم، وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خلف، تمثل الشيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم: هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً؟ قالوا: نعم، قال: فاحفروا تحت الكرسي، فذهب معهم، وأراهم المكان، وقام ناحيته، فقالوا له: فادن، فقال: لا، ولكنني ههنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني، فحفروا، فوجدوا تلك الكتب، فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر، ثم طار وذهب وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها، فذلك حين يقول الله تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ }، وقال الربيع بن أنس: إن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلاأنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه، فيخصمهم به، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا. وإنهم سألوه عن السحر، وخاصموه به، فأنزل الله عز وجل: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب، فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان، وكان عليه السلام لا يعلم الغيب، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر، وخدعوا الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه، ويحسد الناس عليه، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، فرجعوا من عنده وقد أدحض الله حجتهم. وقال مجاهد في قوله تعالى: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } قال: كانت الشياطين تستمع الوحي، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها، فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك، فلما توفي سليمان، وجدته الشياطين، وعلمته الناس، وهو السحر. وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر، فيأخذه منهم، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه، فدنت إلى الإنس، فقالوا لهم: أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا: نعم، قالوا: فإنه في بيت خزانته، وتحت كرسيه، فاستثار به الإنس، واستخرجوه، وعملوا بها، فقال أهل الحجاز: كان سليمان يعلم بهذا، وهذا سحر، فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام، فقال تعالى: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } وقال محمد بن إسحاق بن يسار: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام، فكتبوا أصناف السحر، من كان يحب أن يبلغ كذا فليفعل كذا وكذا، حتى إذا صنفوا أصناف السحر، جعلوه في كتاب، ثم ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان، وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه، واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا، فلما عثروا عليه قالوا: والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا، فأفشوا السحر في الناس، فتعلموه وعلموه، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود، لعنهم الله، فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود، وعده فيمن عد من المرسلين، قال من كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبياً؟ والله ما كان إلا ساحراً. وأنزل الله في ذلك من قولهم: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } الآية، وقال ابن جرير: حدثنا القاسم: حدثنا حسين بن الحجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب، قال: لما سلب سليمان ملكه، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان، فكتبت: من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس، وليقل: كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا، فليستدبر الشمس، وليقل: كذا وكذا، فكتبته، وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنته تحت كرسيه، فلما مات سليمان عليه السلام، قام إبليس لعنه الله خطيباً فقال: يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبياً، إنما كان ساحراً، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحراً، هذا سحره، بهذا تعبدنا، وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون: بل كان نبياً مؤمناً، فلما بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم وذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل، يذكر سليمان مع الأنبياء، إنما كان ساحراً يركب الريح، فأنزل الله تعالى: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } الآية، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: أخذ سليمان عليه السلام من كل دابة عهداً، فإذا أصيب رجل فسأل بذلك العهد، خلي عنه، فزاد الناس السجع والسحر، فقالوا: هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما السلام، فقال الله تعالى: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ }، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن زياد مولى ابن مصعب عن الحسن: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ } قال: ثلث الشعر، وثلث السحر، وثلث الكهانة، وقال: حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } وتبعته اليهود على ملكه، وكان السحر قبل ذلك في الأرض، ولم يزل بها، ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان. فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفهم، والله الهادي. وقوله تعالى: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } أي: واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم، ومخالفتهم لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان، وعداه بعلى لأنه تضمن تتلو تكذب، وقال ابن جرير «على» ههنا بمعنى في، أي: تتلو في ملك سليمان، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق (قلت): والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم. وقول الحسن البصريرحمه الله : وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود صحيح لا شك فيه، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِىۤ إِسْرءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰۤ } [البقرة: 246] الآية، ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: { { وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَـٰهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ وَٱلْحِكْمَةَ } [البقرة: 251] وقال قوم صالح، وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام لنبيهم صالح: { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ } [الشعراء: 153] أي: المسحورين، على المشهور، وقوله تعالى: { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن «ما» نافية، أعني: التي في قوله: { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } قال القرطبي: ما نافية ومعطوف على قوله { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ } ثم قال: { وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل، فأكذبهم الله، وجعل قوله: { هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } بدلاً من الشياطين، قال: وصح ذلك؛ إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى: { { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [النساء: 11] أو لكونهما لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم؛ لتمردهما، تقدير الكلام عنده: يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. ثم قال: وهذا أولى ما حملت عليه الآية، وأصح، ولا يتلفت إلى ما سواه، وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ } الآية، يقول: لم ينزل الله السحر. وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } قال: ما أنزل الله عليهما السحر. قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون قوله: ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه المقدم، قال: فإن قال لنا قائل: كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } من السحر، وما كفر سليمان، وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس، ورداً عليهم. هذا لفظه بحروفه. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثت عن عبيد الله بن موسى، أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية: { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر، قال ابن أبي حاتم: وأخبرنا الفضل بن شاذان، أخبرنا محمد بن عيسى، أخبرنا يعلى، يعني ابن أسد، أخبرنا بكر، يعني ابن مصعب، أخبرنا الحسن بن أبي جعفر: أن عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها: { وما أنزل على الملكين داود وسليمان } وقال أبو العالية: لم ينزل عليهما السحر، يقول: علما بالإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي، رواه ابن أبي حاتم، ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن ما بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك، لأنهما امتثلا ما أمرا به، وهذا الذي سلكه غريب جداً، وأغرب منه قول من زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن، كما زعمه ابن حزم، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرؤها { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } ويقول: هما علجان من أهل بابل، ووجه أصحاب هذا القول الإنزال بمعنى الخلق، لا بمعنى الايحاء؛ كما في قوله تعالى { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } كما قال تعالى: { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَـٰمِ ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6] { وَأَنزْلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [الحديد: 25]، { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزقَاً } [غافر: 13] وفي الحديث: "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء" وكما يقال: «أنزل الله الخير والشر» وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرؤوا: { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } بكسر اللام، قال ابن أبزى: وهما داود وسليمان، قال القرطبي: فعلى هذا تكون ما نافية أيضاً، وذهب آخرون إلى الوقف على قوله: { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ } وما نافية، قال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله { يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } فقال: الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما، ويعلمان الناس ما لم ينزل عليهما، فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت. ثم روى عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم قال في هذه القصة: لا أبالي أي ذلك كان، إني آمنت به، وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان، وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسندهرحمه الله كما سنورده إن شاء الله، وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصاً لهما، فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قوله: إنه كان من الملائكة؛ لقوله تعالى { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤاْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ } [طه: 116] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى. وقد حكاه القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي.

ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه

قال الإمام أحمد بن حنبلرحمه الله تعالى في مسنده: أخبرنا يحيى بن بكير، حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض، قالت الملائكة: أي رب { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30] قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم، قال الله تعالى للملائكة: هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان؟ قالوا: ربنا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك، فقالا: والله لا نشرك بالله شيئاً أبداً، فذهبت عنهما، ثم رجعت بصبي تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي، فقالا: لا والله لا نقتله أبداً، فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله، فسألاها نفسها، فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر، فشربا، فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصبي، فلما أفاقا، قالت المرأة: والله ما تركتما شيئاً أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا" . وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن بن سفيان عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير به، وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا موسى بن جبير هذا، هو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء، وروى عن ابن عباس وأبي أمامة ابن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك، وروى عنه ابنه عبد السلام، وبكر بن مضر، وزهير بن محمد، وسعيد بن سلمة، وعبد الله بن لهيعة، وعمرو بن الحارث، ويحيى بن أيوب، وروى له أبو داود، وابن ماجه، وذكره ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل، ولم يحك فيه شيئاً من هذا، ولا هذا فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي له متابع من وجه آخر عن نافع، كما قال ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس عن نافع عن ابن عمر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فذكره بطوله.وقال أبو جعفر بن جريررحمه الله : حدثنا القاسم، أخبرنا الحسين، وهو سنيد بن داود صاحب التفسير، أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع، قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان من آخر الليل، قال: يا نافع انظر طلعت الحمراء؟ قلت: لا، مرتين أو ثلاثاً، ثم قلت: قد طلعت، قال: لا مرحباً بها، ولا أهلاً، قلت: سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع، قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة قالت: يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟ قال: إني ابتليتهم وعافيتكم، قالوا: لو كنا مكانهم ما عصيناك، قال: فاختاروا ملكين منكم، قال: فلم يألوا جهداً أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت" وهذان أيضاً غريبان جداً. وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب، فقيل لهم: اختاروا منكم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني أرسل إلى بني آدم رسلاً، وليس بيني وبينكم رسول، انزلا لا تشركا بي شيئاً، ولا تزنيا، ولا تشربا الخمر، قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه. رواه ابن جرير من طريقين عن عبد الرزاق به، ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به، ورواه ابن جرير أيضاً: حدثني المثنى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله يحدث عن كعب الأحبار، فذكره، فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع، فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل، والله أعلم.

(ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين)

قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير ابن سعيد، قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: كانت الزهرة امرأة جملية من أهل فارس، وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت، فراوداها عن نفسها، فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء، فعلماها، فتكلمت به، فعرجت إلى السماء، فمسخت كوكباً. وهذا الإسناد رجاله ثقات، وهو غريب جداً. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن أبي خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله عنه قال: هما ملكان من ملائكة السماء، يعني: { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ } ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعاً، وهذا لا يثبت من هذا الوجه. ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الزهرة؛ فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت" وهذ أيضاً لا يصح، وهو منكر جداً، والله أعلم.

وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعاً: لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال: ربنا لا تمهلهم، فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم، ولو نزلتم لفعلتم أيضاً. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت، قال: فوقعا بالخطيئة، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً، فلما وقعا بالخطيئة، استغفروا لمن في الأرض، ألا إن الله هو الغفور الرحيم، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي أخبرنا عبيد الله، يعني ابن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال ابن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد، قال: كنت نازلاً على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة، قال لغلامه: انظر، هل طلعت الحمراء؟ لا مرحباً بها ولا أهلاً، ولا حياها الله، هي صاحبة الملكين، قالت الملائكة: يا رب كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام، وينتهكون محارمك، ويفسدون في الأرض؟ قال: إني ابتليتهم، فلعل إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به، فعلتم كالذي يفعلون، قالوا: لا، قال: فاختاروا من خياركم اثنين، فاختاروا هاروت وماروت، فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض، وعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا، فأهبطا إلى الأرض، وألقى عليهما الشهوة، وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت لهما، فراوداها عن نفسها، فقالت: إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله، قالا: وما دينك؟ قالت المجوسية، قالا: الشرك، هذا شيء لا نقر به، فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى، ثم تعرضت لهما، فراوداها عن نفسها، فقالت: ما شئتما، غير أن لي زوجاً، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء، فعلت، فأقرا لها بدينها، وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى السماء، فلما انتهيا بها إلى السماء، اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما، فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب، فقالا: لو أتينا فلاناً فسألناه فطلب لنا التوبة، فأتياه فقال: رحمكما الله، كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: إنا قد ابتلينا، قال: ائتياني يوم الجمعة، فأتياه، فقال: ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية، فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيرتما إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله، فقال أحدهما: إن أمد الدنيا لم يمض منه إلا القليل. وقال الآخر: ويحك إني قد أطعتك في الأمر الأول، فأطعني الآن، إن عذاباً يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال: إننا يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا، قال: لا. إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعهما علينا، قال: فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار، عاليهما سافلهما - وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر - وقد تقدم في رواية ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه، وهذا أثبت وأصح إسناداً، ثم هو - والله أعلم - من رواية ابن عمر عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه. وقوله: إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء، وكذا في المروي عن علي، فيه غرابة جداً.

وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا عصام بن رواد، أخبرنا آدم، أخبرنا أبو جعفر، حدثنا الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من المعاصي والكفر بالله، قالت الملائكة في السماء: يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فيما وقعوا فيه، وركبوا الكفر، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والزنا والسرقة، وشرب الخمر، فجعلوا يدعون عليهم، ولا يعذرونهم، فقيل: إنهم في غيب، فلم يعذروهم، فقيل لهم: اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما، وأنهاهما، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وجعل لهما شهوات بني آدم، وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئاً، ونهيا عن قتل النفس الحرام، وأكل المال الحرام، وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر، فلبثا في الأرض زماناً يحكمان بين الناس بالحق، وذلك في زمن إدريس عليه السلام، وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب، وإنهما أتيا عليها، فخضعا لها في القول، وأراداها على نفسها، فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها، فسألاها عن دينها، فأخرجت لهما صنماً، فقالت: هذا أعبده، فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا، فذهبا، فغبرا ما شاء الله، ثم أتيا عليها، فأراداها على نفسها، ففعلت مثل ذلك، فذهبا، ثم أتيا عليها، فأراداها على نفسها، فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم، قالت لهما: اختارا أحد الخلال الثلاث: إما أن تعبدا هذا الصنم، وإما أن تقتلا هذه النفس، وإما أن تشربا هذه الخمر، فقالا: كل هذا لا ينبغي، وأهون هذا شرب الخمر، فشربا الخمر، فأخذت فيهما، فواقعا المرأة، فخشيا أن يخبر الإنسان عنهما، فقتلاه، فلما ذهب عنهما السكر، وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة، أرادا أن يصعدا إلى السماء، فلم يستطيعا، وحيل بينهما وبين ذلك، وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه، فعجبوا كل العجب، وعرفوا أنه من كان في غيب، فهو أقل خشية، فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض، فنزل في ذلك: { { وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأَرضِ } [الشورى: 5] فقيل لهما: اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة، فقالا: أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ويذهب، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له، فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا ببابل، فهما يعذبان، وقد رواه الحاكم في مستدركه مطولاً عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهوية عن حكام بن سلم الرازي، وكان ثقة، عن أبي جعفر الرازي به، ثم قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه، فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا مسلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد، يعني الفارسي، عن ابن عباس: أن أهل سماء الدينا أشرفوا على أهل الأرض، فرأوهم يعملون بالمعاصي، فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون بالمعاصي، فقال الله: أنتم معي، وهم في غيب عني، فقيل لهم: اختاروا منكم ثلاثة، فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض، وجعل فيهما شهوة الآدميين، فأمروا أن لا يشربوا خمراً، ولا يقتلوا نفساً، ولا يزنوا، ولا يسجدوا لوثن، فاستقال منهم واحد فأقيل، فأهبط اثنان إلى الأرض، فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها: مناهية، فهوياها جميعاً، ثم أتيا منزلها، فاجتمعا عندها، فأراداها، فقالت لهما: لا، حتى تشربا خمري، وتقتلا ابن جاري، وتسجدا لوثني، فقالا: لا نسجد، ثم شربا من الخمر، ثم قتلا، ثم سجدا، فأشرف أهل السماء عليهما، وقالت لهما: أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما، فأخبراها فطارت، فمسخت جمرة، وهي هذه الزهرة، وأما هما، فأرسل إليهما سليمان بن داود، فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فهما مناطان بين السماء والأرض، وهذا السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة، والله أعلم بالصواب.

وقال عبد الرزاق: قال معمر: قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: { وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـٰرُوتَ وَمَـٰرُوتَ } كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس، وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها، ثم ذهبا يصعدان، فحيل بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. قال معمر: قال قتادة: فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة، فلا تكفر.

وقال أسباط عن السدي أنه قال: كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم، فقيل لهما: إني أعطيت بني آدم عشراً من الشهوات، فبها يعصونني، قال هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات، ثم نزلنا، لحكمنا بالعدل. فقال لهما: انزلا، فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر، فاحكما بين الناس، فنزلا ببابل دنباوند، فكانا يحكمان، حتى إذا أمسيا عرجا، فإذا أصبحا هبطا، فلم يزالا كذلك، حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها، فأعجبهما حسنها، واسمها بالعربية الزهرة، وبالنبطية بيدخت، وبالفارسية أناهيد، فقال أحدهما لصاحبه: إنها لتعجبني، قال الآخر: قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك، فقال الآخر: هل لك أن أذكرها لنفسها. قال: نعم، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر: إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها، ذكرا إليها نفسها، فقالت: لا، حتى تقضيا لي على زوجي، فقضيا لها على زوجها، ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها، فأتياها لذلك، فلما أراد الذي يواقعها قالت: ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء، وبأي كلام تنزلان منها، فأخبراها، فتكلمت، فصعدت، فأنساها الله تعالى ما تنزل به، فثبتت مكانها، وجعلها الله كوكباً، فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها، وقال: هذه التي فتنت هاروت وماروت، فلما كان الليل، أرادا أن يصعدا، فلم يطيقا، فعرفا الهلكة، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فعلقا ببابل، وجعلا يكلمان الناس كلامها، وهو السحر.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: أما شأن هاروت وماروت، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم، وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات، فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض، فاختاروا فلم يألوا هاروت وماروت، فقال لهما حين أنزلهما: أعجبتما من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء، وإنكما ليس بيني وبينكما رسول، فافعلا كذا وكذا، ودعا كذا وكذا، فأمرهما بأمور ونهاهما، ثم نزلا على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما، فحكما فعدلا، فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم، فإذا أمسيا عرجا فكانا مع الملائكة، وينزلان حين يصبحان، فيحكمان فيعدلان، حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم، فقضيا عليها، فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه، فقال أحدهما لصاحبه: وجدت مثل الذي وجدت؟ قال: نعم، فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك، فلما رجعت قالا: وقضيا لها، فأتتهما، فكشفا لها عن عورتيهما، وإنما كانت سوآتهما في أنفسهما، ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها، فلما بلغا ذلك، واستحلا، افتتنا، فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت، فلما أمسيا، عرجا، فزجرا، فلم يؤذن لهما، ولم تحملهما أجنحتهما، فاستغاثا برجل من بني آدم، فأتياه فقالا: ادع لنا ربك، فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء، فوعدهما يوماً، وغدا يدعو لهما، فدعا لهما، فاستجيب له، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: ألا تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد وفي الدنيا تسع مرات مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل فتم عذابهما، وزعم أنهما معلقان في الحديد، مطويان يصفقان بأجنحتهما، وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.

وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك، أحببنا أن ننبه عليه، قال الإمام أبو جعفر بن جريررحمه الله تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن أبي الزناد حدثني هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك، تسأله عن أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به، وقالت عائشة رضي الله عنها لعروة: يابن أختي فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها، فكانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، كان لي زوج، فغاب عني، فدخلت عليّ عجوز، فشكوت ذلك إليها، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك، فلما كان الليل، جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما، وركبت الآخر، فلم يكن شيء حتى وقفنا ببابل، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة، فلا تكفري، فارجعي، فأبيت، وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت، ففزعت ولم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا: أفعلت؟ فقلت: نعم، فقالا: هل رأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري، فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه، فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك، ولا تكفري، فإنك على رأس أمرك، فأرببت وأبيت، فقالا: اذهبي إلى التنور فبولي فيه، فذهبت إليه، فبلت فيه، فرأيت فارساً مقنعاً بحديد خرج مني فذهب في السماء، وغاب حتى ما أراه، فجئتهما فقلت: قد فعلت، فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارساً مقنعاً خرج مني، فذهب في السماء، وغاب حتى ما أراه، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك اذهبي، فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئاً، وما قالا لي شيئاً، فقالت: بلى لم تريدي شيئاً إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت وقلت: أطلعي فأطلعت، وقلت: أحقلي فأحقلت، ثم قلت: أفركي فأفركت، ثم قلت: أيبسي فأيبست، ثم قلت: أطحني فأطحنت، ثم قلت: أخبزي فأخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئاً إلا كان، سقط في يدي، وندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئاً، ولا أفعله أبداً، ورواه ابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان به مطولاً كما تقدم، وزاد بعد قولها: ولا أفعلها أبداً: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حداثة وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ متوافرون، فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعض من كان عنده: لو كان أبواك حيين أو أحدهما. قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول عنهم: كانوا من أهل الورع والخشية من الله، ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم، لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم، فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها.

وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال. وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل؛ كما قال تعالى { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف: 116] وقال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } [طه: 66] استدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق، لا بابل دنباوند كما قاله السدي وغيره، ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم: أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير، فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها، أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي بأرض المقبرة، ونهاني أن أصلي ببابل؛ فإنها ملعونة. وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن علياً مرّ ببابل وهو يسير، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر، فلما برز منها، أمر المؤذن، فأقام الصلاة، فلما فرغ قال: إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي بأرض بابل؛ فإنها ملعونة. حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي، بمعنى حديث سليمان بن داود، قال: فلما خرج منها برز، وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود؛ لأنه رواه وسكت عنه. ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول إلى منازلهم إلا أن يكونوا باكين. قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل وهي من إقليم العراق عن البحر الميحط الغربي، ويقال له أوقيانوس، سبعون درجة، ويسمون هذا طولاً، وأما عرضها، وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت لخط الاستواء، اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم.

وقوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر، نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة، فلا تكفر، وذلك أنهما علما الخير والشر، والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر، قال: فإذا أبى عليهما، أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه، فإذا تعلمه خرج منه النور، فنظر إليه ساطعاً في السماء فيقول: يا حسرتاه يا ويله ماذا صنع؟ وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم، أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر، رواه ابن أبي حاتم، وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة، أي: بلاء ابتلينا به، فلا تكفر. وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر، وعظاه، وقالا له: لا تكفر، إنما نحن فتنة، فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه، فإذا بال عليه خرج منه نور، فسطع حتى يدخل السماء، وذلك الإيمان، وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه، وكل شيء، وذلك غضب الله، فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر، فذلك قول الله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } الآية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية: لا يجترىء على السحر إلا كافر، وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشاعر:

وقد فتن الناس في دينهموخلى ابن عفان شراً طويلاً

وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال: { { إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } [الأعراف: 155] أي: ابتلاؤك واختبارك وامتحانك { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِى مَن تَشَآءُ } [الأعراف: 155] وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر، واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى، أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: "من أتى كاهناً أو ساحراً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" وهذا إسناد صحيح، وله شواهد أخر، وقوله تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت؛ من علم السحر، وما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين، مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين. كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة، ويجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا، والله ما صنعت شيئاً ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، قال: فيقربه ويدنيه ويلتزمه، ويقول: نعم أنت" وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر؛ من سوء منظر، أو خلق، أو نحو ذلك، أو عقد، أو بغضة، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة. والمرء: عبارة عن الرجل، وتأنيثه امرأة، ويثنى كل منهما، ولا يجمعان، والله اعلم.

وقوله تعالى: { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله، وقال محمد بن إسحاق: إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد، وقال الحسن البصري: { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } قال: نعم، من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون ضرَّ أحد إلا بإذن الله، كما قال الله تعالى. وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه، وقوله تعالى: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي: يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ٱلأَخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ } أي: ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق، قال ابن عباس ومجاهد والسدي: من نصيب، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ما له في الآخرة من جهة عند الله، وقال عبد الرزاق: وقال الحسن: ليس له دين، وقال سعد عن قتادة { مَا لَهُ فِى ٱلأَخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ } قال: ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة، وقوله تعالى: { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يقول تعالى: { وَلَبِئْسَ } البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به { وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } أي: ولو أنهم آمنوا بالله ورسله، واتقوا المحارم، لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم، ورضوا به؛ كما قال تعالى: { { وَقَالَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ٱلصَّـٰبِرُونَ } [القصص: 80].

وقد استدل بقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ وٱتَّقَوْا } من ذهب إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف، وقيل: بل لا يكفر، ولكن حده ضرب عنقه، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل، قالا: أخبرنا سفيان، هو ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، أنه سمع بجالة ابن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر. وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضاً، وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها، فأمرت بها، فقتلت. قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر. وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربه بالسيف" ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث، والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفاً. قلت: قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً، والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل، ثم يصيح به، فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى، ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد، جاء مشتملاً على سيفه، وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه، فضرب عنق الساحر، وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه، وتلا قوله تعالى: { { أَفَتَأْتُونَ ٱلسِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [الأنبياء: 3]، فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك، فسجنه، ثم أطلقه، والله أعلم. وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد، حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب، فجاء جندي مشتملاً على سيفه فقتله، قال: أراه كان ساحراً، وحمل الشافعيرحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً، والله أعلم.

(فصل) حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده، قال: وأما أهل السنة، فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حماراً، والحمار إنساناً، إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم، فلا، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة، ثم استدل على وقوع السحر، وأنه بخلق الله تعالى، بقوله تعالى: { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، وأن السحر عمل فيه، وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر. قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثير، ثم قال بعد هذا:

(المسألة الخامسة) في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور اتفق المحققون على ذلك؛ لأن العلم لذاته شريف، وأيضاً لعموم قوله تعالى: { { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] ولأن السحر لو لم يكن يعلم، لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً، فكيف يكون حراماً وقبيحاً؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه، أحدها قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح عقلاً، فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعاً، ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر، وفي الصحيح: "من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد" ، وفي السنن: "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر" وقوله: ولا محظور، اتفق المحققون على ذلك، كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الآية والحديث؟ واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص إلى هذه المسألة أئمة العلماء، أو أكثرهم، وأين نصوصهم على ذلك؟ ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الزمر: 9] فيه نظر، لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي، ولما قلت: إن هذا منه، ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إِلا به، ضعيف، بل فاسد، لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إِن العلم بأنه معجزة لا يتوقف على علم السحر أصلاً، ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم، كانوا يعلمون المعجز، ويفرقون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر، ولا تعلموه، ولا علموه، والله أعلم.

ثم ذكر أبو عبد الله الرازي، أن أنواع السحر ثمانية: (الأول) سحر الكذابين والكشدانيين، الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة، وهي السيارة، وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم، وأنها تأتي بالخير والشر، وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم، وقد استقصي في (كتاب السر المكتوم، في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه، كما ذكره القاضي ابن خلكان وغيره، ويقال: إنه تاب منه، وقيل: بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة، لا على سبيل الاعتقاد، وهذا هو المظنون به، إِلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة، وكيفية ما يفعلونه وما يلبسونه وما يتنسكون به.

قال: (والنوع الثاني) سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض، ولا يمكنه المشي عليه إِذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه، قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إِلى الأشياء الحمر، والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، وما ذلك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق، وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" قال: فإذا عرفت هذا، فنقول: النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً، فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة بالآلات والأدوات، وقد تكون ضعيفة، فتحتاج إِلى الاستعانة بهذه الآلات، وتحقيقه أن النفس إِذا كانت متعلية عن البدن، شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات، صارت كأنها روح من الأوراح السماوية، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم، وإِذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية، فحينئذ لا يكون لها تأثير ألبتة إِلا في هذا البدن، ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء، والانقطاع عن الناس والرياء (قلت): وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال، وهو على قسمين، تارة تكون حالاً صحيحة شرعية، يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة، ولا يسمى هذا سحراً في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة، لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتصرف بها في ذلك، فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة، ولا يدل إعطاء الله إِياهم هذه الأحوال على محبته لهم، كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة، مع أنه مذموم شرعاً، لعنه الله، وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وبسط هذا يطول جداً، وليس هذا موضعه.

قال: (والنوع الثالث) من السحر، الاستعانة بالأرواح الأرضية، وهم الجن، خلافاً للفلاسفة والمعتزلة، وهم على قسمين: مؤمنون، وكفار، وهم الشياطين، وقال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية؛ لما بينها من المناسبة والقرب، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.

قال: (النوع الرابع) من السحر التخيلات والأخذ بالعيون والشعبذة، ومبناه على أن البصر قد يخطىء، ويشتغل بالشيء المعين دون غيره، ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به، ويأخذ عيونهم إليه، حتى إِذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة، وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه، فيتعجبون منه جداً، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إِلى ضد ما يريد أن يعلمه، ولم تتحرك النفوس والأوهام إِلى غير ما يريد إخراجه، لفطن الناظرون لكل ما يفعله. (قال): وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد، كان العمل أحسن، مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه.

(قلت): وقد قال بعض المفسرين: إِن سحر السحرة بين يدي فرعون إِنما كان من باب الشعبذة، ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } وقال تعالى: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ } قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر، والله أعلم.

(النوع الخامس من السحر): الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية؛ كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار، ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية، إِلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل، قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل (قلت): يعني ما قاله المفسرون: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي، فحشوها زئبقاً، فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق، فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها. قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات الخفيفة. قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية، من اطلع عليها قدر عليها. (قلت): ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار؛ كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام منهم. وأما الخواص فهم معترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغاً لهم. وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" وقوله: "حدثوا عني ولا تكذبوا عليَّ، فإنه من يكذب عليّ يلج النار" ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان، وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إِلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إِلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإِذا كان زمان الزيتون، فتح باباً من ناحيته، فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً، فتأتي الطيور، فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه، ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.

(قال الرازي: النوع السادس من السحر) الاستعانة بخواص الأدوية، يعني في هذا الأطعمة والدهانات. قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص؛ فإن تأثير المغناطيس مشاهد. (قلت): يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعياً أنها أحوال له؛ من مخالطة النيران، ومسك الحيات، إلى غير ذلك من المحالات.

قال: (النوع السابع من السحر) التعليق للقلب، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور، فإِذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل، قليل التمييز، اعتقد أنه حق، وتعلق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة، فإذا ما حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة، فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. (قلت): هذا النمط يقال له: التنبلة، وإِنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم. وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه، فإذا كان المتنبل حاذقاً في علم الفراسة، عرف من ينقاد له من الناس من غيره.

قال: (النوع الثامن من السحر) السعي بالنميمة، والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة، وذلك شائع في الناس. (قلت): النميمة على قسمين، تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين، فهذا حرام متفق عليه، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث: "ليس بالكذاب من ينم خيراً" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة، فهذا أمر مطلوب؛ كما جاء في الحديث: "الحرب خدعة" ، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة: جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاماً، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر، ثم لأم بين ذلك، فتناكرت النفوس وافترقت، وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة، والله المستعان.

ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر، وشرح أنواعه وأصنافه، (قلت): وإِنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها؛ لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه، ولهذا جاء في الحديث: "إن من البيان لسحراً" وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل، والسحر: الرئة، وهي محل الغذاء، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره، أي: انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وقال تعالى: { { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ } [الأعراف: 116] أي: أخفوا عنهم علمهم، والله أعلم.

وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق، وله حقيقة، يخلق الله عنده ما يشاء، خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية، حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل. قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة، والشعوذي: البريد؛ لخفة سيره، قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية، قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاماً يحفظ، ورقى من أسماء الله تعالى، وقد يكون من عهود الشياطين، ويكون أدوية وأدخنة، وغير ذلك، قال: وقوله عليه السلام: "إن من البيان لسحراً" يحتمل أن يكون مدحاً كما تقول طائفة، ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة. قال: وهذا أصح، قال: لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له" الحديث.

(فصل) وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرةرحمه الله في كتابه (الإشراف على مذاهب الأشراف) باباً في السحر فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة، إلا أبا حنيفة، فإنه قال: لا حقيقة له عنده. واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعيرحمه الله : إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإِن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لايوجب الكفر، فإِن اعتقد إباحته، فهو كافر، قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد: نعم، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا. فأما إن قتل بسحره إنساناً، فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يقتل حين يتكرر منه ذلك، أو يقر بذلك في حق شخص معين، وإذا قتل، فإِنه يقتل حداً عندهم، إلا الشافعي، فإِنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصاً. قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى: تقبل، وأما ساحر أهل الكتاب، فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم، وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يقتل، يعني: لقصة لبيد بن الأعصم. واختلفوا في المسلمة الساحرة، فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل، ولكن تحبس، وقال الثلاثة: حكمها حكم الرجل، والله أعلم. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري: قال يقتل ساحر المسلمين، ولا يقتل ساحر المشركين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود، فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالكرحمه الله ، أنه قال في الذمي: يقتل إن قتل سحره، وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما أنه يستتاب، فإِن أسلم، وإِلا قتل، والثانية أنه يقتل، وإن أسلم، وأما الساحر المسلم، فإِن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم؛ لقوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }. لكن قال مالك: إذا ظهر عليه، لم تقبل توبته؛ لأنه كالزنديق، فإِن تاب قبل أن يظهر عليه، وجاءنا تائباً، قبلناه، فإن قتل سحره، قتل، قال الشافعي: فإن قال: لم أتعمد القتل، فهو مخطىء تجب عليه الدية.

(مسألة) وهل يسأل الساحر حلاً لسحره؟ فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري، وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة، وكره ذلك الحسن البصري، وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت: يارسول الله هلا تنشرت، فقال: "أما الله فقد شفاني، وخشيت أن أفتح على الناس شراً" وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال: يؤخذ سبع ورقات من سدر، فتدق بين حجرين، ثم تضرب بالماء، ويقرأ عليها آية الكرسي، ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات، ثم يغتسل بباقيه، فإِنه يذهب ما به، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته. (قلت): أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في ذهاب ذلك، وهما المعوذتان، وفي الحديث: "لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما" وكذلك قراءة آية الكرسي؛ فإنها مطردة للشياطين.