خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٣٢
وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِيۤ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٣٣
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
٣٤
-النور

تفسير القرآن العظيم

اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة، والأوامر المبرمة، فقوله تعالى: { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَـٰمَىٰ مِنْكُمْ } إلى آخره، هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه. واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" ، أخرجاه في "الصحيحين" من حديث ابن مسعود، وقد جاء في السنن من غير وجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تزوجوا توالدوا تناسلوا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة" . وفي رواية: "حتى بالسقط"

الأيامى جمع أيم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له، سواء كان قد تزوج ثم فارق أو لم يتزوج واحد منهما، حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال: رجل أيم، وامرأة أيم أيضاً.

وقوله تعالى: { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } الآية، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال: { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد الأزرق، حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد ــــ يعني: ابن عبد العزيز ــــ قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى: { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح. يقول الله تعالى: { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } رواه ابن جرير، وذكر البغوي عن عمر بنحوه، وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره، ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله، وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث: "تزوجوا فقراء، يغنكم الله"، فلا أصل له، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن، وفي القرآن غنية عنه، وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها، ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى: { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام؛ كما قال صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" الحديث، وهذه الآية مطلقة، والتي في سورة النساء أخص منها، وهي قوله: { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ } ــــ إلى قوله ــــ { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي: صبركم عن تزوج الإماء خير لكم، لأن الولد يجيء رقيقاً { وَٱللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال عكرمة في قوله: { وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } قال: هو الرجل يرى المرأة، فكأنه يشتهي، فإن كانت له امرأة، فليذهب إليها، وليقض حاجته منها، وإن لم يكن له امرأة، فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله.

وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَـٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ فَكَـٰتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } هذا أمر من الله تعالى للسادة، إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة، أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب، لا أمر تحتم وإيجاب، بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة، إن شاء كاتبه، وإن شاء لم يكاتبه. قال الثوري عن جابر عن الشعبي: إن شاء كاتبه، وإن شاء لم يكاتبه. وكذا قال ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح: إن يشأ يكاتبه، وإن يشأ لم يكاتبه. وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري، وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب؛ أخذاً بظاهر هذا الأمر.

وقال البخاري: وقال روح عن ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه، قال: ما أراه إلا واجباً. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لا، ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنساً المكاتبة، وكان كثير المال فأبى، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه، فقال: كاتبه، فأبى، فضربه بالدرة، ويتلو عمر رضي الله عنه: { فَكَـٰتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } فكاتبه، هكذا ذكره البخاري تعليقاً، ورواه عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه؟ قال: ما أراه إلا واجباً. وقال عمرو بن دينار قال: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد؟ قال: لاـ وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك: أن سيرين أراد أن يكاتبه، فتلكأ عليه، فقال له عمر: لتكاتبنه، إسناد صحيح. وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال: هي عزمة، وهذا هو القول القديم من قولي الشافعيرحمه الله ، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب؛ لقوله عليه السلام: "لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه" . وقال ابن وهب: قال مالك: الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذاسأله ذلك، ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده. قال مالك: وإنما ذلك أمر من الله تعالى، وإذن منه للناس، وليس بواجب. وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، واختار ابن جرير قول الوجوب؛ لظاهر الآية.

وقوله تعالى: { إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال بعضهم: أمانة، وقال بعضهم: صدقاً، وقال بعضهم: مالاً، وقال بعضهم: حيلة وكسباً. وروى أبو داود في "المراسيل"، عن يحيــــى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَكَـٰتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال: "إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلاً على الناس" ، وقوله تعالى: { وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىۤ ءَاتَـٰكُمْ } اختلف المفسرون فيه، فقال بعضهم: معناه: اطرحوا لهم من الكتابة بعضها، ثم قال بعضهم: مقدار الربع، وقيل: الثلث، وقيل: النصف، وقيل: جزء من الكتابة، من غير حد.

وقال آخرون: بل المراد من قوله: { وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىۤ ءَاتَـٰكُمْ } هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة، وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان، واختاره ابن جرير، وقال إبراهيم النخعي في قوله: { وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىۤ ءَاتَـٰكُمْ } قال: حث الناس عليه، مولاه وغيره، وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة، وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة حق على الله عونهم" فذكر منهم المكاتب يريد الأداء، والقول الأول أشهر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر: أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية، فجاء بنجمه حين حل، فقال: يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك، فقال: يا أمير المؤمنين لو تركته حتى يكون من آخر نجم؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك، ثم قرأ: { فَكَـٰتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىۤ ءَاتَـٰكُمْ } قال عكرمة: فكان أول نجم أدي في الإسلام.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه، لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه؛ مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته، ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته، وضع عنه ما أحب، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: { وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىۤ ءَاتَـٰكُمْ } قال: يعني: ضعوا عنهم في مكاتبتهم، وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي، وقال محمد بن سيرين في الآية: كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان المقرىء، أخبرنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج، أخبرني عطاء بن السائب: أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربع الكتابة" وهذا حديث غريب، ورفعه منكر، والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه؛ كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلميرحمه الله .

وقوله تعالى: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } الآية، كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلماء جاء الإسلام، نهى الله المؤمنين عن ذلك، وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة، فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف، في شأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول، فإنه كان له إماء، فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم.

ذكر الآثار الواردة في ذلك

قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبدالخالق البزاررحمه الله في مسنده: حدثنا أحمد بن داود الواسطي، حدثنا أبو عمرو اللخمي، يعني: محمد بن الحجاج، حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبيّ ابن سلول، يقال لها: معاذة، يكرهها على الزنا، فلما جاء الإسلام، نزلت: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } الآية، وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الآية، قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبيّ ابن سلول يقال لها: مسيكة، كان يكرهها على الفجور، وكانت لا بأس بها، فتأبى، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } ــــ إلى قوله ــــ { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي، حدثنا علي بن سعيد، حدثنا الأعمش، حدثني أبو سفيان عن جابر قال: كان لعبد الله بن أبيّ ابن سلول، جارية يقال لها: مسيكة، وكان يكرهها على البغاء، فأنزل الله: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } ــــ إلى قوله ــــ { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع، فدل على بطلان قول من قال: لم يسمع منه، إنما هو صحيفة، حكاه البزار. وروى أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية، فولدت أولاداً من الزنا، فقال لها: مالك: لا تزنين؟ قالت: والله لا أزني، فضربها فأنزل الله عز وجل: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ }.

وروى البزار أيضاً: حدثنا أحمد بن داود الواسطي، حدثنا أبو عمرو اللخمي ــــ يعني: محمد بن الحجاج ــــ حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: كانت جارية لعبد الله بن أبي يقال لها: معاذة، يكرهها على الزنى، فلما جاء الإسلام، نزلت: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } إلى قوله: { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.

وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري: أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر، وكان عند عبد الله بن أبيّ أسيراً، وكانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها: معاذة، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها، وكانت مسلمة، وكانت تمتنع منه لإسلامها، وكان عبد الله بن أبيّ يكرهها على ذلك، ويضربها؛ رجاء أن تحمل من القرشي، فيطلب فداء ولده، فقال تبارك وتعالى: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً }.

وقال السدي: أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين، وكانت له جارية تدعى معاذة، وكان إذا نزل به ضيف، أرسلها إليه ليواقعها؛ إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه، فشكت إليه، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها، فصاح عبد الله بن أبيّ: من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا؟ فأنزل الله فيهم هذا. وقال مقاتل بن حيان: بلغني ــــ والله أعلم ــــ أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما، إحداهما اسمها مسيكة، وكانت للأنصاري، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبيّ، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة، فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له، فأنزل الله في ذلك: { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَـٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ } يعني: الزنا.

وقوله تعالى: { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } هذا خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له، وقوله تعالى: { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي: من خراجهن ومهورهن وأولادهن. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن، وفي رواية: «مهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث» وقوله تعالى: { وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: لهن؛ كما تقدم في الحديث عن جابر. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: فإن فعلتم، فإن الله لهن غفور رحيم، وإثمهن على من أكرههن، وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة.

وقال أبو عبيد: حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذ الآية: { فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال: لهن والله لهن والله. وعن الزهري قال: غفور لهن ما أكرهن عليه. وعن زيد بن أسلم قال: غفور رحيم للمكرهات، حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله، حدثني ابن لهيعة، حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود { فِإِنَّ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لهن وإثمهن على من أكرههن، وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .

ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها، قال تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَـٰتٍ مُّبَيِّنَـٰتٍ } يعني: القرآن فيه آيات واضحات مفسرات { وَمَثَلاً مِّنَ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } أي: خبراً عن الأمم الماضية، وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى؛ كما قال تعالى { { فَجَعَلْنَـٰهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلأَخِرِينَ } [الزخرف: 56]، أي: زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم { وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } أي: لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.