خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً
٧٢
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً
٧٣
وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً
٧٤
-الفرقان

تفسير القرآن العظيم

وهذه أيضاً من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور، قيل: هو الشرك وعبادة الأصنام، وقيل: الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل، وقال محمد بن الحنفية: هو اللغو والغناء. وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك والربيع بن أنس وغيرهم: هي أعياد المشركين. وقال عمرو بن قيس: هي مجالس السوء والخنا. وقال مالك عن الزهري: شرب الخمر، لا يحضرونه ولا يرغبون فيه؛ كما جاء في الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر" وقيل: المراد بقوله تعالى: { لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي: شهادة الزور، وهي الكذب متعمداً على غيره؛ كما في "الصحيحين" عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" ثلاثاً، قلنا: بلى يا رسول الله. قال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين" وكان متكئاً، فجلس فقال: "ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور، أي: لا يحضرونه، ولهذا قال تعالى: { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } أي:: لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به، مروا ولم يتدنسوا منه بشيء، ولهذا قال: { مَرُّواْ كِراماً }.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سيعد الأشج، حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد بن مسلم، أخبرني إبراهيم بن ميسرة: أن ابن مسعود مر بلهو فلم يقف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً" وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي، ثنا حبان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد بن مسلم، أخبرني ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضاً، فلم يقف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً" . ثم تلا إبراهيم بن ميسرة { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً }.

وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِـآيَـٰتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } وهذه أيضاً من صفات المؤمنين { { ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَـٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [الأنفال: 2] بخلاف الكافر، فإنه إذا سمع كلام الله، لا يؤثر فيه، ولا يتغير عما كان عليه، بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه وجهله وضلاله؛ كما قال تعالى: { { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَـٰناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَـٰناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [التوبة: 124 ــــ 125] فقوله: { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي؛ بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله، فلا تؤثر فيه، فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى.

قال مجاهد: قوله: { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } قال: لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئاً. وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة: قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِـآيَـٰتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } يقول: لم يصموا عن الحق، ولم يعموا فيه، فهم والله قوم عقلوا عن الحق، وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا عبد الله بن حمران، حدثنا ابن عون قال: سألت الشعبي قلت: الرجل يرى القوم سجوداً، ولم يسمع ما سجدوا، أيسجد معهم؟ قال: فتلا هذه الآية: يعني: أنه لا يسجد معهم؛ لأنه لم يتدبر أمر السجود، ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة، بل يكون على بصيرة من أمره، ويقين واضح بين.

وقوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } يعني: الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له. قال ابن عباس: يعنون: من يعمل بطاعة الله، فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة. قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين. وسئل الحسن البصري عن هذه الآية، فقال: أن يري الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله، لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً، أو ولد ولد، أو أخاً، أو حميماً مطيعاً لله عز وجل. قال ابن جريج في قوله: { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } قال: يعبدونك، فيحسنون عبادتك، ولا يجرون علينا الجرائر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني: يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبد الله بن المبارك، أخبرنا صفوان بن عمرو، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً، فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت، فاستغضب المقداد، فجعلت أعجب، لأنه ما قال إلا خيراً، ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف يكون فيه؟ والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أولا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين بما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلمعلى أشد حال بعث عليها نبياً من الأنبياء في فترة جاهلية، ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافراً، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه، وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها التي قال الله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَٰجِنَا وَذُرِّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } وهذا إسناد صحيح، ولم يخرجوه.

وقوله تعالى: { وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس: أئمة يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم: هداة مهتدين دعاة إلى الخير، فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم وذرياتهم، وأن يكون هداهم متعدياً إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثر ثواباً، وأحسن مآباً، ولهذا ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية" .