خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ
١٤
-سبأ

تفسير القرآن العظيم

يذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه السلام، وكيف عمى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئاً على عصاه، وهي منسأته، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد: مدة طويلة نحواً من سنة، فلما أكلتها دابة الأرض، وهي الأرضة، ضعفت وسقطت إلى الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة. وتبينت الجن والإنس أيضاً أن الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع غريب، وفي صحته نظر.

قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا موسى بن مسعود، أبو حذيفة، حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان نبي الله سليمان عليه السلام إذا صلى، رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول كذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت تغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلي ذات يوم، إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان عليه السلام: اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنحتها عصاً، فتوكأ عليها حولاً ميتاً والجن تعمل، فأكلتها الأرضة، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولاً في العذاب المهين" قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، قال: فشكرت الجن للأرضة، فكانت تأتيها بالماء، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث إبراهيم بن طهمان به. وفي رفعه غرابة ونكارة، والأقرب أن يكون موقوفاً، وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات، وفي بعض حديثه نكارة.

وقال السدي في حديث ذكره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم. قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام يتحنث في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، وأقل من ذلك وأكثر، فيدخل فيه، ومعه طعامه وشرابه، فأدخله في المرة التي توفي فيها، فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا ينبت الله في بيت المقدس شجرة، فيأتيها فيسألها: فيقول: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا وكذا، فإن كانت لغرس، غرسها، وإن كانت تنبت دواء، قالت: نبت دواء كذا وكذا، فيجعلها كذلك، حتى نبتت شجرة يقال لها: الخروبة، فسألها: ما اسمك؟ قالت: أنا الخروبة، قال: ولأي شي، نبت؟ قالت: نبت لخراب هذا المسجد، قال سليمان عليه الصلاة والسلام: ما كان الله ليخربه وأنا حي، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له، ثم دخل المحراب، فقام يصلي متكئاً على عصاه، فمات ولم تعلم به الشياطين، وهم في ذلك يعملون له، يخافون أن يخرج عليهم فيعاقبهم، وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب، وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه، فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول: ألست جلداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر، فدخل شيطان من أولئك، فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام في المحراب إلا احترق، فمر ولم يسمع صوت سليمان، ثم رجع فلم يسمع، ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق، ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط ميتاً، فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات، ففتحوا عليه فأخرجوه. ووجدوا منسأته، وهي العصا بلسان الحبشة، قد أكلتها الأرضة، ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة، وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه، فمكثوا يدينون له من بعد موته حولاً كاملاً، فأيقن الناس عند ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم، ولو أنهم يطلعون على الغيب، لعلموا بموت سليمان، ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له، وذلك قول الله عز وجل: { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } يقول: تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام، أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب، سقيناك أطيب الشراب، ولكنا سننقل إليك الماء والطين، قال: فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، قال: ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب؟ فهو ما تأتيها به الشياطين شكراً لها، وهذا الأثر ــــ والله أعلم ــــ إنما هو مما تلقي من علماء أهل الكتاب، وهي وقف لا يصدق منه إلا ما وافق الحق، ولا يكذب منها إلا ما خالف الحق، والباقي لا يصدق ولا يكذب.

وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تبارك وتعالى: { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } قال: قال سليمان عليه السلام لملك الموت: إذا أمرت بي، فأعلمني، فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك، قد بقيت لك سويعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير، وليس له باب، فقام يصلي، فاتكأ على عصاه، قال: فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه، ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت، قال: والجن تعمل بين يديه، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، قال: فبعث الله عز وجل دابة الأرض، قال: والدابة تأكل العيدان يقال لها القادح، فدخلت فيها، فأكلتها، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر ميتاً، فلما رأت ذلك الجن، انفضوا وذهبوا، قال: فذلك قوله تعالى: { مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } قال أصبغ: بلغني عن غيره أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر، وذكر غير واحد من السلف نحواً من هذا، والله أعلم.