خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
٤
أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ
٥
وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ
٦
مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلآخِرَةِ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ
٧
أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ
٨
أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ
٩
أَمْ لَهُم مُّلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ
١٠
جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ
١١

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً؛ كما قال عز وجل: { { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَـٰفِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَـٰحِرٌ مُّبِينٌ } [يونس: 2] وقال جل وعلا ههنا: { وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي: بشر مثلهم، وقال الكافرون: { هَـٰذَا سَـٰحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ ٱلأَلِهَةَ إِلَـٰهاً وَٰحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ } أي: أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟ أنكر المشركون ذلك، قبحهم الله تعالى، وتعجبوا من ترك الشرك بالله؛ فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان، وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم، وإفراد الإله بالوحدانية، أعظموا ذلك، وتعجبوا وقالوا: { أَجَعَلَ ٱلأَلِهَةَ إِلَـٰهاً وَٰحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ } وهم سادتهم وقادتهم، ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين: { ٱمْشُواْ } أي: استمروا على دينكم، { وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ ءَالِهَتِكُمْ } ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد، وقوله تعالى: { إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ } قال ابن جرير: إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم، والاستعلاء، وأن يكون له منكم أتباع، ولسنا نجيبه إليه.

(ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمة)

قال السدي: إن ناساً من قريش اجتمعوا، فيهم أبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والأسود بن المطلب والأسود بن عبد يغوث في نفر من مشيخة قريش، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبي طالب، فلنكلمه فيه، فلينصفنا منه، فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه الذي يعبده؛ فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ، فيكون منا إليه شيء، فتعيرنا به العرب؛ يقولون: تركوه حتى إذا مات عنه، تناولوه. فبعثوا رجلاً منهم يقال له: المطلب، فاستأذن لهم على أبي طالب، فقال: هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم يستأذنون عليك، قال: أدخلهم، فلما دخلوا عليه قالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، فأنصفنا من ابن أخيك، فمره فليكف عن شتم آلهتنا، وندعه وإلهه، قال: فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يابن أخي هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم، وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم، ويدعوك وإلهك قال صلى الله عليه وسلم "يا عم أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟" قال: وإلام تدعوهم؟ قال صلى الله عليه وسلم "أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم" فقال أبو جهل لعنه الله من بين القوم: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشراً أمثالها، قال صلى الله عليه وسلم "تقولون: لا إله إلا الله" فنفروا، وقالوا: سلنا غيرها، قال صلى الله عليه وسلم "لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي، ما سألتكم غيرها" فقاموا من عنده غضاباً، وقالوا: والله لنشتمك وإلهك الذي أمرك بهذا { وَٱنطَلَقَ ٱلْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ ٱمْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَىٰ ءَالِهَتِكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْءٌ يُرَادُ } ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد: فلما خرجوا، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه إلى قوله: لا إله إلا الله، فأبى، وقال: بل على دين الأشياخ، ونزلت: { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56].

قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا: حدثنا أبو أسامة، حدثنا الأعمش، حدثنا عباد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، قال: فخشي أبو جهل لعنه الله إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه، فوثب فجلس في ذلك المجلس، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك، ويزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول؟ قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية" ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة؟ نعم وأبيك عشراً، فقالوا: وما هي؟ وقال أبو طالب: وأي كلمة هي يابن أخي؟ قال صلى الله عليه وسلم "لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: { أَجَعَلَ ٱلأَلِهَةَ إِلَـٰهاً وَٰحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَىْءٌ عُجَابٌ } قال: ونزلت من هذا الموضع إلى قوله: { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } لفظ أبي كريب. وهكذا رواه الإمام أحمد والنسائي من حديث محمد بن عبد الله بن نمير، كلاهما عن أبي أسامة عن الأعمش عن عباد غير منسوب، به نحوه، ورواه الترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير أيضاً كلهم في تفاسيرهم من حديث سفيان الثوري عن الأعمش عن يحيى بن عمارة الكوفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما، فذكر نحوه. وقال الترمذي: حسن. وقولهم: { مَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِى ٱلْمِلَّةِ ٱلأَخِرَةِ } أي: ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة.

قال مجاهد وقتادة وأبو زيد: يعنون: دين قريش. وقال غيرهم: يعنون النصرانية، قاله محمد بن كعب والسدي. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة، يعني: النصرانية، قالوا: لو كان هذا القرآن حقاً، لأخبرتنا به النصارى، { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } قال مجاهد وقتادة: كذب. وقال ابن عباس: تخرص. وقولهم: { أَءَنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } يعني: أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كلهم؛ كما قال في الآية الأخرى: { { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] قال الله تعالى: { { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ } [الزخرف: 32] ولهذا لما قالوا هذا الذي دلّ على جهلهم وقلة عقلهم؛ في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم،

قال الله تعالى: { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } أي: إنما يقولون هذا لأنهم ما ذاقوا إلى حين قولهم ذلك عذاب الله تعالى ونقمته، سيعلمون غب ما قالوا، وما كذبوا به، يوم يدعون إلى نار جهنم دعاً. ثم قال تعالى مبيناً أنه المتصرف في ملكه، الفعال لما يشاء، الذي يعطي من يشاء ما يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده، ويختم على قلب من يشاء فلا يهديه أحد من بعد الله، وإن العباد لا يملكون شيئاً من الأمر، وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة، وما يملكون من قطمير.

ولهذا قال تعالى منكراً عليهم: { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ٱلْعَزِيزِ ٱلْوَهَّابِ } أي: العزيز الذي لا يرام جنابه، الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى: { { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ ٱلْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ ءَاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَـٰهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } [النساء: 53 ــــ 55] وقوله تعالى: { { قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَـٰنُ قَتُورًا } [الإسراء: 100] وذلك بعد الحكاية عن الكفار أنهم أنكروا بعثة الرسول البشري صلى الله عليه وسلم وكما أخبر عز وجل عن قوم صالح عليه السلام حين قالوا: { { أَءُلْقِىَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ ٱلْكَذَّابُ ٱلأَشِرُ } [القمر:25 ــــ 26].

وقوله تعالى: { أَمْ لَهُم مٌّلْكُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى ٱلأَسْبَابِ } أي: إن كان لهم ذلك، فليصعدوا في الأسباب. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم: يعني: طرق السماء، وقال الضحاكرحمه الله تعالى: فليصعدوا إلى السماء السابعة.

ثم قال عز وجل: { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن ٱلأَحَزَابِ } أي: هؤلاء الجند المكذبون الذين هم في عزة وشقاق سيهزمون ويغلبون، ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين، وهذه الآية كقوله جلت عظمته: { { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 44 ــــ 45] كان ذلك يوم بدر { { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } [القمر: 46].