خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
١٠
قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ
١١
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـيِّ ٱلْكَبِيرِ
١٢
هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ
١٣
فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ
١٤
-غافر

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن الكفار: أنهم ينادون يوم القيامة، وهم في غمرات النيران يتلظون، وذلك عندما باشروا من عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به، فمقتوا عند ذلك أنفسهم، وأبغضوها غاية البغض؛ بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة التي كانت سبب دخولهم إلى النار، فأخبرتهم الملائكة عند ذلك إخباراً عالياً، نادوهم نداء بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا حين كان يعرض عليهم الإيمان فيكفرون أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم اليوم في هذه الحالة. قال قتادة في قوله تعالى: { لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَـٰنِ فَتَكْفُرُونَ } يقول: لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه، وأبوا أن يقبلوه، أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة، وهكذا قال الحسن البصري ومجاهد والسدي وذر بن عبيد الله الهمداني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير الطبري رحمة الله عليهم أجمعين. وقوله: { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ } قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رضي الله عنه: هذه الآية كقوله تعالى: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [البقرة: 28] وكذا قال ابن عباس والضحاك وقتادة وأبو مالك، وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية. وقال السدي: أميتوا في الدنيا، ثم أحيوا في قبورهم فخوطبوا، ثم أميتوا، ثم أحيوا يوم القيامة، وقال ابن زيد: أحيوا حين أخذ عليهم المثياق من صلب آدم عليه السلام، ثم خلقهم في الأرحام، ثم أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة، وهذان القولان من السدي وابن زيد ضعيفان؛ لأنه يلزمهما على ما قالا ثلاث إحياءات وإماتات، والصحيح قول ابن مسعود وابن عباس ومن تابعهما، والمقصود من هذا كله أن الكفار يسألون الرجعة، وهم وقوف بين يدي الله عز وجل في عرصات القيامة؛ كما قال عز وجل: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَٱرْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12] فلا يجابون، ثم إذا رأوا النار وعاينوها، ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة، فلا يجابون، قال الله تعالى: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِـآيَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } [الأنعام: 27 ــــ 28] فإذا دخلوا النار، وذاقوا مسّها وحسيسها ومقامعها وأغلالها، كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [فاطر: 37] { { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 107 ــــ 108] وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال، وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة، وهي قولهم: { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ } أي: قدرتك عظيمة؛ فإنك أحييتنا بعد ما كنا أمواتاً، ثم أمتنا ثم أحييتنا، فأنت قادر على ما تشاء، وقد اعترفنا بذنوبنا، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا، { فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ }؟ أي: فهل أنت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا؟ فإنك قادر على ذلك؛ لنعمل غير الذي كنا نعمل، فإن عدنا إلى ماكنا فيه، فإنا ظالمون، فأجيبوا أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا، ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه، بل تجحده وتنفيه، ولهذا قال تعالى: { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ } أي: أنتم هكذا تكونون، وإن رددتم إلى الدار الدنيا؛ كما قال عز وجل: { { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } [الأنعام: 28] وقوله جل وعلا: { فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـىِّ ٱلْكَبِيرِ } أي: هو الحاكم في خلقه، العادل الذي لا يجور، فيهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرحم من يشاء، ويعذب من يشاء، لا إله إلا هو. وقوله جل جلاله: { هُوَ ٱلَّذِى يُرِيكُمْ ءَايَـٰتِهِ } أي: يظهر قدرته لخلقه؛ بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها، { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً } وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس؛ من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه، وهو ماء واحد، فبالقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء { وَمَا يَتَذَكَّرُ } أي: يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء، ويستدل بها على عظمة خالقها { إِلاَّ مَن يُنِيبُ } أي: من هو بصير منيب إلى الله تبارك وتعالى. وقوله عز وجل: { فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } أي: فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء، وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم. قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام، يعني: ابن عروة بن الزبير عن أبي الزبير محمد بن مسلم بن تَدْرُس المكي قال: كان عبد الله بن الزبير يقول في دبر كل صلاة حين يسلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل بهن دبر كل صلاة، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق عن هشام ابن عروة وحجاج بن أبي عثمان وموسى بن عقبة، ثلاثتهم عن أبي الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وذكر تمامه. وقد ثبت في الصحيح عن ابن الزبير رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" . وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع، حدثنا الخصيب بن ناصح، حدثنا صالح، يعني: المري، عن هشام ابن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" .