يقول تعالى: { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن: { أَرَءَيْتُمْ إِن كَانَ } هذا القرآن { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } أي: كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله؟ ولهذا قال عز وجل: { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي: في كفر وعناد، ومشاقة للحق، ومسلك بعيد من الهدى. ثم قال جل جلاله: { سَنُرِيهِمْ ءَايَـٰتِنَا فِى ٱلأَفَاقِ وَفِىۤ أَنفُسِهِمْ } أي: سنظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقاً منزلاً من عند الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية { فِى ٱلأَفَاقِ } من الفتوحات، وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان. قال مجاهد والحسن والسدي: ودلائل في أنفسهم، قالوا: وقعة بدر، وفتح مكة، ونحو ذلك من الوقائع التي حلت بهم نصر الله فيها محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه، وخذل فيها الباطل وحزبه. ويحتمل أن يكون المراد من ذلك ما الإنسان مركب منه وفيه وعليه من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة؛ كما هو مبسوط في علم التشريح الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى، وكذلك ما هو مجبول عليه من الأخلاق المتباينة من حسن وقبح وغير ذلك، وما هو متصرف فيه تحت الأقدار التي لا يقدر بحوله وقوته وحيله وحذره أن يجوزها، ولا يتعداها؛ كما أنشده ابن أبي الدنيا في كتابه التفكر والاعتبار عن شيخه أبي جعفر القرشي حيث قال وأحسن المقال:
وإذا نظرْتَ تريدُ معتبراًفانظرْ إليكَ ففيكَ معتبرُ
أنتَ الذي تُمْسي وتُصْبحُ فيالدنيا وكلُّ أموره عِبَرُ
أنتَ المصرَّفُ كانَ في صغرٍثم استقلَّ بشخصِك الكبرُ
أنتَ الذي تنعاهُ خلقتهُينعاهُ منهُ الشعرُ والبشرُ
أنتَ الذي تُعْطى وتُسْلب لا يُنْجيه من أن يسلبَ الحذرُ
أنتَ الذي لا شيءَ منهُ لهُوأحقُّ منه بما لِه القدرُ
وقوله تعالى: { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } أي: كفى بالله شهيداً على أفعال عباده وأقوالهم، وهو يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به عنه كما قال: { { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء: 166] الآية. وقوله تعالى: { أَلآ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } أي: في شك من قيام الساعة، ولهذا لا يتفكرون فيه، ولا يعملون له، ولا يحذرون منه، بل هو عندهم هدر، لا يعبؤون به، وهو كائن لا محالة، وواقع لا ريب فيه، قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا خلف بن تميم، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا سعيد الأنصاري قال: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم، ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون، فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق، والمكذب به هالك، ثم نزل. ومعنى قوله رضي الله عنه: إن المصدق به أحمق، أي: لأنه لا يعمل له عمل مثله، ولا يحذر منه، ولا يخاف من هوله، وهو مع ذلك مصدق به، موقن بوقوعه، وهو مع ذلك يتمادى في لعبه وغفلته، وشهواته وذنوبه، فهو أحمق بهذا الاعتبار، والأحمق في اللغة ضعيف العقل، وقوله: والمكذب به هالك، هذا واضح، والله أعلم. ثم قال تعالى مقرراً أنه على كل شيء قدير، وبكل شيء محيط، وإقامة الساعة لديه يسير سهل عليه تبارك وتعالى: { أَلآ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطٌ } أي: المخلوقات كلها تحت قهره، وفي قبضته، وتحت طي علمه، وهو المتصرف فيها كلها بحكمه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا إله إلا هو. آخر تفسير سورة فُصِّلت ولله الحمد والمنّة.