يقول تعالى: { وَمِنْ ءَايَـٰتِهِ } الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر { خَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا } أي: ذرأ فيهما؛ أي في السموات والأرض { مِن دَآبَّةٍ } وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم، وقد فرقهم في أرجاء أقطار السموات والأرض { وَهُوَ } مع هذا كله { عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } أي: يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائرالخلائق في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق.
وقوله عز وجل: { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي: مهما أصابكم أيها الناس من المصائب، فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم، { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها، بل يعفو عنها،
{ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [فاطر: 45] وفي الحديث الصحيح: "والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه، حتى الشوكة يشاكها" . وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن علية، حدثنا أيوب قال: قرأت في كتاب أبي قلابة قال: نزلت: { { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [الزلزلة:7-8] وأبو بكر رضي الله عنه يأكل، فأمسك وقال: يا رسول الله إني أرى ما عملت من خير وشر؟ فقال: "أرأيت ما رأيت مما تكره، فهو من مثاقيل ذر الشر، وتدخر مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة" وقال: قال أبو إدريس: فإني أرى مصداقها في كتاب الله تعالى: { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ثم رواه من وجه آخر عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه، قال: والأول أصح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا الأزهر بن راشد الكاهلي عن الخضر بن القواس البجلي عن أبي سخيلة عن علي رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عز وجل، وحدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"وما أصابكم من مصيبة، فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير، وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا، فبما كسبت أيديكم، والله تعالى أحلم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله تعالى أكرم من أن يعود بعد عفوه" وكذا رواه الإمام أحمد عن مروان بن معاوية وعبدة عن أبي سخيلة قال: قال علي رضي الله عنه، فذكر نحوه مرفوعاً. ثم روى ابن أبي حاتم نحوه من وجه آخر موقوفاً فقال: حدثنا أبي، حدثنا منصور ابن أبي مزاحم، حدثنا أبو سعيد بن أبي الوضاح عن أبي الحسن عن أبي جحيفة قال: دخلت على علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال: فسألناه، فتلا هذه الآية: { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } قال: ما عاقب الله تعالى به في الدنيا، فالله أحلم من أن يثني عليه بالعقوبة يوم القيامة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا طلحة، يعني: ابن يحيى، عن أبي بردة عن معاوية، هو ابن أبي سفيان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه، إلا كفر الله تعالى عنه به من سيئاته" وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسين عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كثرت ذنوب العبد، ولم يكن له ما يكفرها، ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا أبو أسامة عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن، هو البصري، قال في قوله تبارك وتعالى: { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } قال: لما نزلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود، ولا اختلاج عرق، ولا عثرة قدم، إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر" . وقال أيضاً: حدثنا أبي، حدثنا عمر بن علي، حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: دخل عليه بعض أصحابه، وقد كان ابتلي في جسده، فقال له بعضهم: إنا لنبأس لك لما نرى فيك، قال: فلا تبتئس بما ترى؛ فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ }. وحدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، حدثنا جرير عن أبي البلاد قال: قلت للعلاء بن بدر: { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }، وقد ذهب بصري وأنا غلام؟ قال: فبذنوب والديك. وحدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا وكيع عن عبد العزيز بن أبي داود عن الضحاك قال: ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسيه، إلا بذنب، ثم قرأ الضحاك: { وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ثم يقول الضحاك: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن؟