يقول تعالى: بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون، أي: قد جاءهم الحق اليقين، وهم يشكون فيه ويمترون، ولا يصدقون به، ثم قال عز وجل متوعداً لهم ومهدداً: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } قال سليمان بن مهران الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: دخلنا المسجد، يعني مسجد الكوفة عند أبواب كندة، فإذا رجل يقص على أصحابه: { يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام، قال: فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه، فذكرنا له ذلك، وكان مضطجعاً، ففزع فقعد وقال: إن الله عز وجل قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم
{ { قُلْ مَآ أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86] إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم: الله أعلم، سأحدثكم عن ذلك، إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام، واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء، فلا يرون إلا الدخان، وفي رواية: فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. قال الله تعالى: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر؛ فإنها قد هلكت، فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم، فسقوا، فنزلت { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ }. قال ابن مسعود رضي الله عنه: فيكشف عنهم العذاب يوم القيامة، فلما أصابهم الرفاهية، عادوا إلى حالهم، فأنزل الله عز وجل: { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } قال: يعني: يوم بدر. قال ابن مسعود رضي الله عنه: فقد مضى خمسة: الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيريهما، وعند ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به، وقد وافق ابنَ مسعود رضي الله عنه على تفسير الآية بهذا، وأن الدخان مضى: جماعةٌ من السلف؛ كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا جعفر بن مسافر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا عبد الرحمن الأعرج في قوله عز وجل: { يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } قال: كان يوم فتح مكة. وهذا القول غريب جداً بل منكر. وقال آخرون: لم يمض الدخان بعد، بل هو من أمارات الساعة؛ كما تقدم من حديث أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه، قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، ونحن نتذاكر الساعة، فقال صلى الله عليه وسلم
"لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج عيسى بن مريم، والدجال، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ــــ أو تحشر الناس ــــ تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا" . تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه، وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد: "إني خبأت لك خبأ" قال: هو الدخ، قال صلى الله عليه وسلم "اخسأ فلن تعدو قدرك" قال: وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } وهذا فيه إشعار بأنه من المنتظر المرتقب، وابن صياد كاشف على طريقة الكهان بلسان الجان، وهم يقرطمون العبارة، ولهذا قال: هو الدخ، يعني: الدخان، فعندها عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مادته، وأنها شيطانية، فقال صلى الله عليه وسلم "اخسأ فلن تعدو قدرك" ثم قال ابن جرير: وحدثني عصام بن رواد بن الجراح، حدثنا أبي، حدثنا سفيان بن أبي سعيد الثوري، حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إنّ أول الآيات الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر، تقيل معهم إذا قالوا، والدخان ــــ قال حذيفة رضي الله عنه: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ يَغْشَى ٱلنَّاسَ هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ــــ يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يوماً وليلة، أما المؤمن، فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر، فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره" . قال ابن جرير: لو صح هذا الحديث، لكان فاصلاً، وإنما لم أشهد له بالصحة؛ لأن محمد بن خلف العسقلاني حدثني: أنه سأل رواداً عن هذا الحديث: هل سمعه من سفيان؟ فقال له: لا، قال: فقلت: أقرأته عليه؟ قال:لا، قال: فقلت له: أقرىء عليه وأنت حاضر، فأقر به؟ فقال: لا، فقلت له: فمن أين جئت به؟ فقال: جاءني به قوم، فعرضوه علي، وقالوا لي: اسمعه منا، فقرؤوه علي، ثم ذهبوا به فحدثوا به عني، أو كما قال. وقد أجاد ابن جرير في هذا الحديث ههنا، فإنه موضوع بهذا السند، وقد أكثر ابن جرير من سياقه في أماكن من هذا التفسير، وفيه منكرات كثيرة جداً، ولا سيما في أول سورة بني إسرائيل في ذكر المسجد الأقصى، والله أعلم. وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش، حدثني أبي، حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إن ربكم أنذركم ثلاثاً: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال" . ورواه الطبراني عن هاشم بن يزيد عن محمد بن إسماعيل بن عياش به، وهذا إسناد جيد. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا خليل عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يهيج الدخان بالناس، فأما المؤمن، فيأخذه الزكمة، وأما الكافر، فينفخه حتى يخرج من كل مسمع منه" . ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه موقوفاً، وروى سعيد بن عوف عن الحسن مثله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال: لم تمض آية الدخان بعد، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام، وتنفخ الكافر حتى ينفذ. وروى ابن جرير من حديث الوليد بن جميع عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلماني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: يخرج الدخان، فيأخذ المؤمن كهيئة الزكام، ويدخل مسامع الكافر والمنافق حتى يكون كالرأس الحنيذ، أي: المشوي على الرضف، ثم قال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية عن ابن جريج عن عبد الله ابن أبي مليكة قال: غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم، فقال: ما نمت الليلة حتى أصبحت. قلت: لِمَ؟ قال: قالوا: طلع الكوكب ذو الذنب، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق، فما نمت حتى أصبحت. وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي عمر عن سفيان عن عبد الله بن أبي يزيد، عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما، فذكره، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها مما فيه مقنع، ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن، قال الله تبارك وتعالى: { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى ٱلسَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } أي: بين واضح يراه كل أحد، وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد، وهكذا قوله تعالى: { يَغْشَى ٱلنَّاسَ } أي: يتغشاهم ويعمهم، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين، لما قيل فيه: { يَغْشَى ٱلنَّاسَ }.
وقوله تعالى: { هَـٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي: يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً، كقوله عز وجل:
{ { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىٰ نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هَـٰذِهِ ٱلنَّارُ ٱلَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [الطور: 13 ــــ 14] أو يقول بعضهم لبعض ذلك. وقوله سبحانه وتعالى: { رَّبَّنَا ٱكْشِفْ عَنَّا ٱلْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي: يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم؛ كقوله جلت عظمته: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ فَقَالُواْ يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِـآيَـٰتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام: 27] وكذا قوله جل وعلا: { { وَأَنذِرِ ٱلنَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ ٱلْعَذَابُ فَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ ٱلرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } [إبراهيم: 44]. وهكذا قال جل وعلا ههنا: { أَنَّىٰ لَهُمُ ٱلذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ }. يقول: كيف لهم بالتذكر، وقد أرسلنا إليهم رسولاً بين الرسالة والنذارة، ومع هذا تولوا عنه، وما وافقوه، بل كذبوه وقالوا: معلم مجنون؟ وهذا كقوله جلت عظمته: { { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَـٰنُ وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [الفجر:23] الآية، وكقوله عز وجل: { { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } [سبأ: 51 ــــ 52] إلى آخر السورة. وقوله تعالى: { إِنَّا كَاشِفُواْ ٱلْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } يحتمل معنيين: (أحدهما) أنه يقول تعالى: ولو كشفنا عنكم العذاب، ورجعناكم إلى الدار الدنيا، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب؛ كقوله تعالى:
{ { وَلَوْ رَحِمْنَـٰهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } [المؤمنون: 75] وكقوله جلت عظمته: { { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ } [الأنعام: 28]. و (الثاني) أن يكون المراد إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان والضلال، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم؛ كقوله تعالى: { { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ } [الأعراف: 88 ــــ 89]. ولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم، ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا: { { لَنُخْرِجَنَّكَ يـٰشُعَيْبُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَـٰرِهِينَ قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا } [الأعراف: 88 ــــ 89] وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطريقتهم، وقال قتادة: إنكم عائدون إلى عذاب الله. وقوله عز وجل: { يَوْمَ نَبْطِشُ ٱلْبَطْشَةَ ٱلْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ } فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود رضي الله عنه على تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما من رواية العوفي عنه، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه، وهو محتمل، والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً. قال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية، حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ابن مسعود رضي الله عنه: البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة، وهذا إسناد صحيح عنه، وبه يقول الحسن البصري وعكرمة في أصح الروايتين عنه، والله أعلم.