خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
١٨
وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٩
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
٢٠
-الأحقاف

تفسير القرآن العظيم

لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما، ومالهم عنده من الفوز، والنجاة، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } وهذا عام في كل من قال هذا، ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، فقوله ضعيف، لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها نزلت في ابن لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وفي صحة هذا نظر، والله تعالى أعلم. وقال ابن جريج عن مجاهد: نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما، قاله ابن جريج، وقال آخرون: عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما، وهذا أيضاً قول السدي، وإنما هذا عام في كل من عق والديه، وكذب بالحق، فقال لوالديه: أُفٍّ لَّكُمَآ عقهما.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، أخبرني عبد الله بن المديني، قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً، وإن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: أف لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ألست ابن اللعين الذين لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك؟ قال: وسمعتهما عائشة رضي الله عنها، فقالت: يامروان أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبت، ما فيه نزلت، ولكن نزلت في فلان بن فلان، ثم انتحب مروان، ثم نزل عن المنبر، حتى أتى باب حجرتها، فجعل يكلمها حتى انصرف، وقد رواه البخاري بإسناد آخر ولفظ آخر فقال: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، فخطب وجعل يذكر يزيد بن معاوية؛ لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما شيئاً، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة رضي الله عنها، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل فيه: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي } فقالت عائشة رضي الله عنها من وراء الحجاب: ما أنزل الله عز وجل فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله تعالى أنزل عذري.

[طريق أخرى] قال النسائي: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أمية بن خالد، حدثنا شعبة عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: سنة هرقل وقيصر. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله تعالى فيه: { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } الآية. فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه، لسميته، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان فَضَضٌ من لعنة الله.

وقوله: { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ } أي أبعث { وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي } أي: قد مضى الناس، فلم يرجع منهم مخبر { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ } أي يسألان الله فيه أن يهديه، ويقولان لولدهما: { وَيْلَكَ ءَامِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }. قال الله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـٰسِرِينَ } أي دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم؛ من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } بعد قوله: { وَٱلَّذِي قَالَ } دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك. وقال الحسن وقتادة: هو الكافر الفاجر العاق لوالديه المكذب بالبعث. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة سهل بن داود من طريق هشام بن عمار: حدثنا حماد بن عبد الرحمن، حدثنا خالد بن الزبرقان الحلبي عن سليم بن حبيب عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربعة لعنهم الله تعالى من فوق عرشه، وأمنت عليهم الملائكة: مضل المساكين" قال خالد: الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول: هلم أعطيك، فإذا جاءه قال: ليس معي شيء "والذي يقول للمكفوف اتق الدابة وليس بين يديه شيء، والرجل يسأل عن دار القوم، فيدلونه على غيرها، والذي يضرب الوالدين حتى يستغيثا" غريب جداً.

وقوله تبارك وتعالى: { وَلِكُلٍّ دَرَجَـٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أي لكل عذاب بحسب عمله { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَـٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: درجات النار تذهب سفالاً، ودرجات الجنة تذهب علواً، وقوله عز وجل: { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً، وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب، وتنزه عنها ويقول: إني أخاف أن أكون كالذين قال الله لهم وبخهم وقرعهم { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } وقال أبو مجلز: ليفقدن أقوام حسنات كانت لهم في الدنيا، فيقال لهم: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } وقوله عز وجل: { فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } فجوزوا من جنس عملهم فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق، وتعاطوا الفسق والمعاصي، جازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة، والحسرات المتتابعة، والمنازل في الدركات المفظعة، أجارنا الله سبحانه وتعالى من ذلك كله.