خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ
٢٠
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ
٢١
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ
٢٢
أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ
٢٣
-محمد

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين: أنهم تمنوا شرعية الجهاد، فلما فرضه الله عز وجل، وأمر به، نكل عنه كثير من الناس؛ كقوله تبارك وتعالى: { { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 77] وقال عز وجل ههنا: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي مشتملة على حكم القتال، ولهذا قال: { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ ٱلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ ٱلْمَوْتِ } أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء، ثم قال مشجعاً لهم: { فَأَوْلَىٰ لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، أي في الحالة الراهنة، { فَإِذَا عَزَمَ ٱلأَمْرُ } أي جد الحال، وحضر القتال { فَلَوْ صَدَقُواْ ٱللَّهَ } أي أخلصوا له النية، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ }.

وقوله سبحانه وتعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ } أي عن الجهاد، ونكلتم عنه { أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام، ولهذا قال تعالى: { أَوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ } وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً، وعن قطع الأرحام خصوصاً، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال، وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق عديدة ووجوه كثيرة، قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان، حدثني معاوية بن أبي مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله تعالى الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم، فأخذت بحقوي الرحمن عز وجل، فقال: مه؟ فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك" قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ } ثم رواه البخاري من طريقين آخرين عن معاوية بن أبي مزرد به قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا إن شئتم: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطِّعُوۤاْ أَرْحَامَكُمْ }" . ورواه مسلم من حديث معاوية بن أبي مزرد به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية، حدثنا عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن عن أبيه عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" . ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث إسماعيل هو ابن علية به، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي، حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سره النِّساء في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه" . تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيح. وقال أحمد أيضاً: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي ذوي أرحام، أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا، إذن تتركون جميعاً، ولكن جد بالفضل وصلهم، فإنه لن يزال معك ظهير من الله عز وجل ما كنت على ذلك" تفرد به أحمد من هذا الوجه، وله شاهد من وجه آخر.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يعلى، حدثنا فطر عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافىء، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها" رواه البخاري. وقال أحمد: حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا قتادة عن أبي ثمامة الثقفي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضع الرحم يوم القيامة لها حجنة كحجنة المغزل، تكلم بلسان طلق ذلق، فتقطع من قطعها وتصل من وصلها" وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا عمرو عن أبي قابوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والرحم شجنة من الرحمن، من وصلها وصلته ومن قطعها بتته" وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار به، وهذا هو الذي يروى بتسلسل الأولية، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ: أن أباه حدثه: أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو مريض، فقال له عبد الرحمن رضي الله عنه: وصلتك رحم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أنا الرحمن، خلقت الرحم وشققت لها من اسمي؛ فمن يصلها أصله، ومن يقطعها أقطعه فأبته ــــ أو قال ــــ من بتها أبته" تفرد به أحمد من هذا الوجه، ورواه أحمد أيضاً من حديث الزهري عن أبي سلمة عن الرداد ــــ أو أبي الرداد ــــ عن عبد الرحمن بن عوف به، ورواه أبو داود والترمذي من رواية أبي سلمة عن أبيه، والأحاديث في هذا كثيرة جداً.

وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن عبد الله بن علاثة عن الحجاج بن الفرافصة، عن أبي عمر البصري عن سليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف" وبه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ظهر القول وخزن العمل وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم" والأحاديث في هذا كثيرة، والله أعلم.