خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
٤
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ
٥
وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ
٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ
٧
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ
٨
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ
٩
-محمد

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى مرشداً للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين: { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } أي إذا واجهتموهم، فاحصدوهم حصداً بالسيوف { حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي أهلكتموهم قتلاً { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } الأسارى الذين تأسرونهم، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم، إن شئتم مننتم عليهم، فأطلقتم أساراهم مجاناً، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم، وتشارطونهم عليه، والظاهر أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذ؛ ليأخذوا منهم الفداء، والتقليل من القتل يومئذ، فقال: { { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَـٰبٌ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الأنفال: 67 ــــ 68] ثم قد ادعى بعض العلماء أن هذه الآية المخيرة بين مفاداة الأسير والمن عليه منسوخة بقوله تعالى: { { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] الآية، رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج. وقال الآخرون وهم الأكثرون: ليست بمنسوخة، ثم قال بعضهم: إنما الإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله. وقال آخرون منهم: بل له أن يقتله إن شاء؛ لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسارى بدر. وقال ثمامة بن أثال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: "ما عندك يا ثمامة؟" فقال: إن تقتل، تقتل ذا دم، وإن تمنن تمنن على شاكر، وإن كنت تريد المال، فاسأل تعط منه ما شئت. وزاد الشافعي رحمة الله عليه فقال: الإمام مخير بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه أيضاً، وهذه المسألة محررة في علم الفروع، وقد دللنا على ذلك في كتابنا الأحكام، ولله سبحانه وتعالى الحمد والمنة.

وقوله عز وجل: { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } قال مجاهد: حتى ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال" . وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش عن إبراهيم بن سليمان، عن الوليد ابن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير قال: إن سلمة بن نفيل أخبرهم: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني سيبت الخيل وألقيت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، وقلت: لا قتال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "الآن جاء القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس، يزيغ الله تعالى قلوب أقوام، فيقاتلونهم، ويرزقهم الله منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، ألا إن عُقْرَ دار المؤمنين بالشام، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" وهكذا رواه النسائي من طريقين عن جبير بن نفير عن سلمة بن نفيل السكوني به.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح فقالوا: يا رسول الله سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها، قالوا: لا قتال، قال: "كذبوا الآن جاء القتال، ولا يزال الله تعالى يزيغ قلوب قوم يقاتلونهم، فيرزقهم منهم حتى يأتي أمر الله، وهم على ذلك، وعقر دار المسلمين بالشام" . وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن داود بن رشيد به، والمحفوظ أنه من رواية سلمة بن نفيل كما تقدم، وهذا يقوي القول بعدم النسخ؛ كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب. وقال قتادة: { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك، وهذا كقوله تعالى: { { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ } [البقرة: 193]. ثم قال بعضهم: حتى تضع الحرب أوزارها، أي أوزار المحاربين، وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عز وجل، وقيل: أوزار أهلها؛ بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى. وقوله عز وجل: { ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي هذا ولو شاء الله، لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ليختبركم، ويبلو أخباركم؛ كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في سورتي آل عمران وبراءة في قوله تعالى: { { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ } [آل عمران: 142].

وقال تبارك وتعالى في سورة براءة: { { قَـٰتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 14 ــــ 15] ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين، قال: { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي لن يذهبها، بل يكثرها وينميها ويضاعفها، ومنهم من يجري عليه عمله طول برزخه؛ كما ورد بذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا زيد ابن يحيى الدمشقي، حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي ــــ رجل كانت له صحبة ــــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يعطى الشهيد ست خصال: عند أول قطرة من دمه تكفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويأمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان" تفرد به أحمدرحمه الله .

[حديث آخر] قال أحمد أيضاً: حدثنا الحكم بن نافع، حدثني إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه" . وقد أخرجه الترمذي وصححه وابن ماجه. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن أبي قتادة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّين" وروي من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" ورواه أبو داود. والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جداً.

وقوله تبارك وتعالى: { سَيَهْدِيهِمْ } أي إلى الجنة؛ كقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَـٰرُ فِي جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِيمِ } [يونس: 9]. وقوله عز وجل: { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي أمرهم وحالهم، { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي عرفهم بها وهداهم إليها. قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحداً، وروى مالك عن ابن زيد بن أسلم نحو هذا، وقال محمد بن كعب: يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة. وقال مقاتل بن حيان: بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له، فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة، دخل إلى منزله وأزواجه، وانصرف الملك عنه، ذكره ابن أبي حاتمرحمه الله . وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضاً رواه البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله الذي كان في الدنيا"

ثم قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } كقوله عز وجل: { { وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } [الحج: 40] فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا قال تعالى: { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } كما جاء في الحديث: "من بلغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة" ثم قال تبارك وتعالى: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين الناصرين لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش!" أي فلا شفاه الله عز وجل. وقوله سبحانه وتعالى: { وَأَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي أحبطها وأبطلها، ولهذا قال: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي لا يريدونه ولا يحبونه { فَأَحْبَطَ أَعْمَـٰلَهُمْ }.