خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً
١
لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً
٢
وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً
٣
-الفتح

تفسير القرآن العظيم

نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام فيقضي عمرته فيه، وحالوا بينه وبين ذلك، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة، وأن يرجع عامه هذا، ثم يأتي من قابل، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى، فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع، أنزل الله عز وجل هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم، وجعل ذلك الصلح فتحاً باعتبار ما فيه من المصلحة وما آل الأمر إليه، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال: إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعد الفتح صلح الحديبية، وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية، وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحاً، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مئة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتانا فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح، حدثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، قال: فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد عليَّ، قال: فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يابن الخطاب ألححت كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فلم يرد عليك؟ قال: فركبت راحلتي، فحركت بعيري فتقدمت مخافة أن يكون نزل فيَّ شيء، قال: فإذا أنا بمناد: يا عمر قال: فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيَّ شيء قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نزل علي البارحة سورة هي أحب إلي من الدنيا وما فيها: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }" ورواه البخاري والترمذي والنسائي من طرق عن مالكرحمه الله ، وقال علي بن المديني: هذا إسناد مدني جيد لم نجده إلا عندهم. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن قتادة عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت علي الليلة آية أحب إلي مما على الأرض" ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله لقد بين الله عز وجل ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه صلى الله عليه وسلم: { لِّيُدْخِلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } حتى بلغ { فَوْزاً عَظِيماً } أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا مجمع بن يعقوب قال: سمعت أبي يحدث عن عمه عبد الرحمن بن أبي يزيد الأنصاري، عن عمه مجمع بن حارثة الأنصاري رضي الله عنه، وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن قال: شهدنا الحديبية، فلما انصرفنا عنها، إذا الناس ينفرون الأباعر، فقال الناس بعضهم لبعض: ما للناس؟ قالوا: أوحي إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجنا مع الناس نوجف، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم، فاجتمع الناس عليه، فقرأ عليهم: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال: فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رسول الله أو فتح هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح" فقسمت خيبر على أهل الحديبية، لم يدخل معهم فيها أحد إلا من شهد الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة، منهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين، وأعطى الراجل سهماً. ورواه أبو داود في الجهاد عن محمد بن عيسى عن مجمع بن يعقوب به.

وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع، حدثنا أبو يحيى، حدثنا شعبة، حدثنا جامع بن شداد عن عبدالرحمن بن أبي علقمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلا والشمس قد طلعت، فاستيقظنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم. قال: فقلنا أيقظوه، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "افعلوا ما كنتم تفعلون وكذلك يفعل من نام أو نسي" قال: وفقدنا ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة، فأتيته بها فركبها، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي قال: وكان إذا أتاه الوحي اشتد عليه، فلما سري عنه أخبرنا أنه أنزل عليه: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }. وقد رواه أحمد وأبو داود والنسائي من غير وجه عن جامع بن شداد به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة ابن شعبة يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟" أخرجاه وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث زياد به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر عن ابن قسيط عن ابن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى، قام حتى تتفطر رجلاه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم لك من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً؟" أخرجه مسلم في الصحيح من رواية عبد الله بن وهب به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا عبد الله بن عوف الخراز، وكان ثقة بمكة، حدثنا محمد بن بشر حدثنا مسعر عن قتادة عن أنس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه ــــ أو قال: ساقاه ــــ فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟" غريب من هذا الوجه. فقوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } أي بيناً وظاهراً والمراد به صلح الحديبية، فإنه حصل بسببه خير جزيل، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض، وتكلم المؤمن مع الكافر، وانتشر العلم النافع والإيمان.

وقوله تعالى: { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم التي لا يشاركه فيها غيره، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه لا من الأولين ولا من الآخرين، وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق، وسيدهم في الدنيا والآخرة، ولما كان أطوع خلق الله تعالى لله، وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه، قال: حين بركت به الناقة: "حبسها حابس الفيل" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئاً يعظمون به حرمات الله إلا أجبتهم إليها" فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح، قال الله تعالى له: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي: في الدنيا والآخرة، { وَيَهْدِيَكَ صِرَٰطاً مُّسْتَقِيماً } أي: بما يشرعه لك من الشرع العظيم، والدين القويم، { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } أي بسبب خضوعك لأمر الله عز وجل يرفعك الله وينصرك على أعدائك؛ كما جاء في الحديث الصحيح: "وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله عز وجل إلا رفعه الله تعالى" وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ما عاقبت أحداً عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه.