خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ
٦
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَّاشِدُونَ
٧
فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٨
-الحجرات

تفسير القرآن العظيم

يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق؛ ليحتاط له لئلا يحكم بقوله، فيكون في نفس الأمر كاذباً أو مخطئاً، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عز وجل عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال؛ لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال، وقد قررنا هذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري، ولله تعالى الحمد والمنة، وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي: أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به. ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة.

فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول ولم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله؛ ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، أي خاف، فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه، وأتى الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث، وفصل عن المدينة، لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله، قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني.

فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟" قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن يكون كانت سخطة الله تعالى ورسوله. قال: فنزلت الحجرات: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } إلى قوله: { حَكِيمٌ } رواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان التمار عن محمد بن سابق به، ورواه الطبراني من حديث محمد بن سابق به، غير أنه سماه: الحارث بن سرار، والصواب أنه الحارث بن ضرار كما تقدم. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا جعفر بن عون عن موسى بن عبيدة عن ثابت مولى أم سلمة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله، قالت: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، قالت: فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفوا له حين صلى الظهر، فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رجلاً مصدقاً، فسررنا بذلك، وقرت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال رضي الله عنه، فأذن بصلاة العصر. قالت: ونزلت: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }.

وروى ابن جرير أيضاً من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق؛ ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضباً شديداً، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم، إذ أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، وإن النبي صلى الله عليه وسلم استغشهم وهم بهم، فأنزل الله تبارك وتعالى عذرهم في الكتاب فقال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } إلى آخر الآية.

وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق؛ ليصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك، زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاؤوا، أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه، فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "التثبث من الله، والعجلة من الشيطان" وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم في هذه الآية: أنها أنزلت في الوليد بن عقبة، والله أعلم.

وقوله تعالى: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ ٱللَّهِ } أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله، فعظموه ووقروه، وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال تبارك وتعالى: { { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [الأحزاب: 6] ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم، فقال: { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه، لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم، كما قال سبحانه وتعالى: { { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَـٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَـٰهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } [المؤمنون: 71] وقوله عز وجل: { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإِيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي حببه إلى نفوسكم، وحسنه في قلوبكم.

قال الإمام أحمد: حدثنا بهز حدثنا علي بن مسعدة، حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام علانية، والإيمان في القلب ــــ قال: ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول: ــــ التقوى ههنا، التقوى ههنا" { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان، وهي جميع المعاصي، وهذا تدريج لكمال النعمة، وقوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلرَٰشِدُونَ } أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم.

قال الإمام أحمد: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، حدثنا عبد الواحد بن أيمن المكي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال: لما كان يوم أحد، وانكفأ المشركون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استووا حتى أثني على ربي عز وجل" فصاروا خلفه صفوفاً، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت. اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول. اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف. اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعتنا. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق" ورواه النسائي في اليوم والليلة عن زياد بن أيوب عن مروان بن معاوية عن عبد الواحد بن أيمن عن عبيد بن رفاعة عن أبيه به. وفي الحديث المرفوع: "من سرته حسنته وساءته سيئته، فهو مؤمن" ثم قال: { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً } أي هذا العطاء الذي منحكموه هو فضل منه عليكم ونعمة من لدنه، { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدرته.