خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ
٤١
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ
٤٢
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٣
إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ
٤٤
-المائدة

تفسير القرآن العظيم

نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر، الخارجين عن طاعة الله ورسوله، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عز وجل؛ { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ ءَامَنَّا بِأَفْوَٰهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم، وقلوبهم خراب خاوية منه، وهؤلاء هم المنافقون؛ { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } أعداء الإسلام وأهله، وهؤلاء كلهم { سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } أي: مستجيبون له، منفعلون عنه، { سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي: يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد، وقيل: المراد أنهم يتسمعون الكلام، وينهونه إلى قوم آخرين؛ ممن لا يحضر عندك من أعدائك، { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَٰضِعِهِ } أي: يتأوّلونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ماعقلوه، وهم يعلمون، { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً، وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد، فإن حكم بالدية، فاقبلوه، وإن حكم بالقصاص، فلا تسمعوا منه، والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة، والتحميم، والإركاب على حمارين مقلوبين، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة، قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه، فإن حكم بالجلد والتحميم، فخذوا عنه، واجعلوه حجة بينكم وبين الله، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك، وإن حكم بالرجم، فلا تتبعوه في ذلك.

وقد وردت الأحاديث في ذلك، فقال مالك: عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟" فقالوا: نفضحهم، ويجلدون، قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة، فأتوا بالتوراة، فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم؛ فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده، فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة، أخرجاه، وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ له: فقال لليهود: "ما تصنعون بهما؟" قالوا: نسخم وجوههما، ونخزيهما، قال: { { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران: 93] فجاؤوا بها فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها، فوضع يده عليه، فقال: ارفع يدك، فرفع، فإذا آية الرجم تلوح، قال: يا محمد، إن فيها آية الرجم، ولكنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما، فرجما.

وعند مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتي بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاء يهود، فقال: "ما تجدون في التوراة على من زنى؟" قالوا: نسود وجوههما ونحممهما، ونحملهما، ونخالف بين وجوههما، ويطاف بهما. قال: { { فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران: 93] قال: فجاؤوا بها، فقرؤوها، حتى إذا مر بآية الرجم، وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم، وقرأ ما بين يديها وما وراءها، فقال له عبد الله بن سلام، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مُره فليرفع يده، فرفع يده، فإذا تحتها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر: كنت فيمن رجمهما، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب، حدثنا هشام بن سعد: أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى القف، فأتاهم في بيت المدراس، فقالوا: يا أبا القاسم، إن رجلاً منا زنى بامرأة، فاحكم. قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة، فجلس عليها، ثم قال: "ائتوني بالتوراة، فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال: آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال: ائتوني بأعلمكم" فأتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع.

وقال الزهري: سمعتُ رجلاً من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه، ونحن عند ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم، قبلناها، واحتججنا بها عند الله، قلنا: فتيا نبي من أنبيائك. قال: فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟" قالوا: يحمم، ويجبه، ويجلد، والتجبيه: أن يحمل الزانيان على حمار، وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما، قال: وسكت شاب منهم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، سكت، ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فما أول ما ارتخصتم أمر الله؟" قال: زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا، فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في إثره من الناس، فأراد رجمه، فحال قومه دونه، وقالوا: لا نرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه، فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما، فرجما، قال الزهري: فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم: { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم، رواه أحمد وأبو داود، وهذا لفظه، وابن جرير.

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة، عن البراء ابن عازب، قال: مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يهودي محمم مجلود، فدعاهم، فقال: "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" فقالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟" فقال: لا والله، ولولا أنك نشدتني بهذا، لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف، تركناه، وإذا أخذنا الضعيف، أقمنا عليه الحد، فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه" قال: فأمر به، فرجم، قال: فأنزل الله عز وجل: { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ } إلى قوله: { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } أي: يقولون: ائتوا محمداً، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد، فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروا، إلى قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال: في اليهود، إلى قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } قال: في اليهود { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } قال: في الكفار كلها، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري، وأبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن الأعمش به.

وقال الإمام أبو بكر عبد الله ابن الزبير الحميدي في مسنده: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: زنى رجل من أهل فدك، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة: أن سلوا محمداً عن ذلك، فإذا أمركم بالجلد، فخذوه عنه، وإن أمركم بالرجم، فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك، فقال: "أرسلوا إلي أعلم رجلين فيكم" فجاؤوا برجل أعور، يقال له: ابن صوريا، وآخر، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتما أعلم من قبلكما؟" فقالا: قد دعانا قومنا لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله؟" قالا: بلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل، وظلل عليكم الغمام، وأنجاكم من آل فرعون، وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل، ما تجدون في التوراة في شأن الرجم" ؟ فقال أحدهما للآخر: ما نشدت بمثله قط، ثم قالا: نجد ترداد النظر زنية، والاعتناق زنية، والتقبيل زنية، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدي ويعيد، كما يدخل الميل في المكحلة، فقد وجب الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هو ذاك" فأمر به، فرجم، فنزلت: { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }. ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه.

ولفظ أبي داود: عن جابر، قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: "ائتوني بأعلم رجلين منكم" ، فأتوه بابني صوريا، فنشدهما: "كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟" قالا: نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، رجما، قال: "فما يمنعكم أن ترجموهما؟" قالا: ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالشهود، فجاء أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، برجمهما، ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي مرسلاً، ولم يذكر فيه: فدعا بالشهود فشهدوا. فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكم بموافقة حكم التوراة، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة، ولكن هذا بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك، وسؤاله إياهم عن ذلك؛ ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤوا على كتمانه وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة، فلما اعترفوا به. مع علمهم على خلافه، بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، وعُدولُهم إلى تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم، وشهوة لموافقة آرائهم، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به، ولهذا قالوا: { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا } أي: الجلد والتحميم، { فَخُذُوهُ }، أي: اقبلوه، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } أي: من قبوله واتباعه.

وقال الله تعالى: { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ } أي: الباطل، { أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ } أي: الحرام، وهو الرشوة، كما قاله ابن مسعود وغير واحد، أي: ومن كانت هذه صفته، كيف يطهر الله قلبه، وأنى يستجيب له؟ ثم قال لنبيه: { فَإِن جَآءُوكَ } أي: يتحاكمون إليك، { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي: فلا عليك أن لا تحكم بينهم، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق، بل ما يوافق أهواءهم، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والحسن وغير واحد: هي منسوخة بقوله: { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ }، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ } أي: بالحق والعدل، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ }.

ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة، ومقاصدهم الزائغة؛ في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبداً، ثم خرجوا عن حكمه، وعدلوا إلى غيره؛ مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه، وعدم لزومه لهم، فقال: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران، فقال: { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } أي: لا يخرجون عن حكمها، ولا يبدلونها، ولا يحرفونها، { وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ } أي: وكذلك الربانيون منهم، وهم العلماء العباد، والأحبار، وهم العلماء { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللَّهِ } أي: بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به، { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } أي: لا تخافوا منهم، وخافوا مني، { وَلاَ تَشْتَرُواْ بآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } فيه قولان سيأتي بيانهما.

سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات

قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، عن عبد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: إن الله أنزل: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ }، قال: قال ابن عباس: أنزلها الله في الطائفتين من اليهود، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة، فديته خمسون وسقاً، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة، فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك، حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويومئذ لم يظهر، ولم يوطئهما عليه، وهو في الصلح، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلاً، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين دينهما واحد، ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا، وفرقاً منكم، فأما إذ قدم محمد، فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ثم ذكرت العزيزة، فقالت: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلا ضيماً منا، وقهراً لهم، فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه؛ إن أعطاكم ما تريدون، حكمتموه، وإن لم يعطكم، حذرتم، فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناساً من المنافقين ليخبروا لهم رأي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل الله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ } إلى قوله { ٱلْفَـٰسِقُونَ } ففيهم والله أنزل، وإياهم عنى الله عز وجل. ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه.

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا هناد بن السري وأبو كريب، قالا: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثني داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس: أن الآيات التي في المائدة قوله: { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف، تؤدى لهم الدية كاملة، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله ذلك فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء، والله أعلم أي ذلك كان. ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه.

ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت قريظة والنضير، وكانت النضير أشرف من قريظة، فكان إذا قتل القرظي رجلاً من النضير، قتل به، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة، ودي بمائة وسق من تمر، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة، فقالوا: ادفعوا إليه، فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِٱلْقِسْطِ }، ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث عبيد الله بن موسى بنحوه، وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغير واحد.

وقد روى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا؛ كما تقدمت الأحاديث بذلك، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم، ولهذا قال بعد ذلك: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ } إلى آخرها، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص، والله سبحانه وتعالى أعلم، وقوله تعالى: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب، زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة، وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن منصور عن إبراهيم، قال: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل، ورضي الله لهذه الأمة بها، رواه ابن جرير.

وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا يعقوب، حدثنا هشيم أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل، عن علقمة ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة، فقال: من السحت، فقالا: وفي الحكم، قال: ذاك الكفر، ثم تلا: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } وقال السدي: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } يقول: ومن لم يحكم بما أنزلت، فتركه عمداً، أو جار وهو يعلم، فهو من الكافرين. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال: من جحد ما أنزل الله، فقد كفر، ومن أقرّ به، ولم يحكم به، فهو ظالم فاسق، رواه ابن جرير، ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب. أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب، وقال عبد الرزاق، عن الثوري، عن زكريا، عن الشعبي،: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ }، قال: للمسلمين.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة عن ابن أبي السفر، عن الشعبي: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال: هذا في المسلمين { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } قال: هذا في اليهود { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } قال: هذا في النصارى، وكذا رواه هشيم والثوري، عن زكريا ابن أبي زائدة، عن الشعبي. وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن ابن طاوس، عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم } الآية، قال: هي به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء أنه قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، رواه ابن جرير. وقال وكيع، عن سعيد المكي، عن طاوس: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله: { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } قال: ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، وقال: صحيح على شرط الشيخين،ولم يخرجاه.