خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٥١
فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ
٥٢
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ
٥٣
-المائدة

تفسير القرآن العظيم

ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى، الذين هم أعداء الإسلام وأهله - قاتلهم الله - ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك، فقال: { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } الآية. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب، حدثنا محمد، يعني: ابن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب، عن عياض: أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد، وكان له كاتب نصراني، فرفع إليه ذلك، فعجب عمر، وقال: إن هذا لحفيظ، هل أنت قارىء لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام؟ فقال: إنه لا يستطيع، فقال عمر: أجنب هو؟ قال: لا بل نصراني. قال: فانتهرني، وضرب فخذي، ثم قال: أخرجوه، ثم قرأ: { يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَآءَ } الآية، ثم قال: حدثنا محمد ابن الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا عثمان بن عمر، أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين، قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن يكون يهودياً أو نصرانياً وهو لا يشعر. قال: فظنناه يريد هذه الآية: { يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَآءَ } الآية. وحدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا ابن فضيل عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: كل، قال الله تعالى: { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }، وروي عن أبي الزناد نحو ذلك.

وقوله تعالى: { فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي: شك وريب ونفاق، يسارعون فيهم، أي: يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر، { يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } أي: يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك. عند ذلك قال الله تعالى: { فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ } قال السدي: يعني: فتح مكة. وقال غيره: يعني: القضاء والفصل، { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ }. قال السدي: يعني: ضرب الجزية على اليهود والنصارى، { فَيُصْبِحُواْ } يعني: الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين { عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِىۤ أَنفُسِهِمْ } من الموالاة، { نَـٰدِمِينَ } أي: على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئاً، ولا دفع عنهم محذوراً، بل كان عين المفسدة؛ فإنهم فضحوا، وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين، لا يدرى كيف حالهم، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم، تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين، ويحلفون على ذلك، ويتأولون، فبان كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال تعالى: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُـٰۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَـٰسِرِينَ }.

وقد اختلف القرّاء في هذا الحرف، فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ }، ثم منهم من رفع: { وَيَقُولُ } على الابتداء، ومنهم من نصب، عطفاً على قوله: { فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } فتقديره: أن يأتيَ، وأن يقولَ. وقرأ أهل المدينة: { يَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُوا } بغير واو، وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير. قال ابن جرير عن مجاهد: { فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } تقديره: حينئذ { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُـٰۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَـٰسِرِينَ } واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات، فذكر السدي أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أما أنا، فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي، فآوي إليه، وأتهوّد معه؛ لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر: أما أنا، فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام، فآوي إليه، وأتنصر معه، فأنزل الله: { يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَآءَ } الآيات، وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى بني قريظة، فسألوه: ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، أي: إنه الذبح، رواه ابن جرير.

وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول، كما قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يارسول الله، إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي: "يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه" قال: قد قبلت، فأنزل الله عز وجل: { يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَآءَ } الآيتين.

ثم قال ابن جرير: حدثنا هناد، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري: قال: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود: أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر، فقال مالك بن الصيف: أغركم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال؟ أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم، لم يكن لكم يد أن تقاتلونا، فقال عبادة بن الصامت: يا رسول الله، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيراً سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية يهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي: لكني لا أبرأ من ولاية يهود، إني رجل لا بد لي منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه" فقال: إذاً أقبل، قال: فأنزل الله: { يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ } إلى قوله تعالى: { { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [المائدة: 67].

وقال محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج، قال: فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أحسن في موالي، قال: فأعرض عنه. قال: فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلني" . وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رأوا لوجهه ظللاً، ثم قال: "ويحك أرسلني" قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي؛ أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم لك" . قال محمد بن إسحاق: فحدثني أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي، وقام دونهم، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله، أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف الكفار، وولايتهم، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة:{ يَـٰۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } - إلى قوله - { وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } [المائدة: 56].

وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة عن محمد ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على عبد الله بن أبي نعوده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قد كنت أنهاك عن حب يهود" فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زراة فمات، وكذا رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق.