خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
١٢٣
وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ
١٢٤
-الأنعام

تفسير القرآن العظيم

يقول تعالى: وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين، ورؤساء ودعاة إلى الكفر، والصد عن سبيل الله، وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك، ثم تكون لهم العاقبة، كما قال تعالى: { { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ } [الفرقان: 31] الآية، وقال تعالى: { { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } [الإسراء: 16] الآية، قيل: معناه: أمرناهم بالطاعة، فخالفوا، فدمرناهم، قيل: أمرناهم أمراً قدرياً؛ كما قال ههنا: { لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } وقوله تعالى: { أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: { أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } قال: سلطنا شرارهم، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك، أهلكناهم بالعذاب.

وقال مجاهد وقتادة: { أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا }: عظماؤها، قلت: وهكذا قوله تعالى: { { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـٰفِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَٰلاً وَأَوْلَـٰداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ: 34 - 35] وقال تعالى: { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [الزخرف: 23] والمراد بالمكر ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال؛ كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح: { { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } [نوح: 22] وكقوله تعالى: { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } [سبأ: 31 - 33] الآية، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان، قال: كل مكر في القرآن فهو عمل، وقوله تعالى: { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي: وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم، كما قال تعالى: { { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت: 13] وقال: { وَمِنْ أَوْزَارِ ٱلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [النحل: 25]. وقوله تعالى: { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ } أي: إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة، قالوا { لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ ٱللَّهِ } أي: حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة؛ كما تأتي إلى الرسل، كقوله جل وعلا: { { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا ٱلْمَلَـٰئِكَةُ أَوْ نَرَىٰ رَبَّنَا } [العنكبوت: 21] الآية.

وقوله: { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أي: هو أعلم حيث يضع رسالته، ومن يصلح لها من خلقه؛ كقوله تعالى: { { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءَانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } } [الزخرف: 31 - 32] الآية، يعنون: لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم { { مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ } [الزخرف: 31] أي: من مكة والطائف، وذلك أنهم، قبحهم الله، كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً؛ كقوله تعالى مخبراً عنه: { { وَإِذَا رَآكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ هُمْ كَـٰفِرُونَ } [الأنبياء: 36] وقال تعالى: { { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَـٰذَا ٱلَّذِى بَعَثَ ٱللَّهُ رَسُولاً } [الفرقان: 41] وقال تعالى: { { وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [الأنعام: 10] هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه، صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه «الأمين» وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا. الحديث بطوله، الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته، وصحة ما جاء به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب، حدثنا الأوزاعي، عن شداد أبي عمار، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الله اصطفى من ولد إبراهيم إِسماعيل، واصطفى من بني إِسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم" انفرد بإخراجه مسلم، من حديث الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام، به نحوه، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه"

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن المطلب بن أبي وداعة، قال: قال العباس: بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس، فصعد المنبر، فقال: "من أنا؟" قالوا: أنت رسول الله، فقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إِن الله خلق الخلق، فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً، فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً" صدق صلوات الله وسلامه عليه. وفي الحديث أيضاً، المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل: قلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم" رواه الحاكم والبيهقي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو بكر، حدثنا عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً، فهو عند الله سيىء. وقال أحمد: حدثنا شجاع بن الوليد، قال: ذكر قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن سلمان، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمان لا تبغضني، فتفارق دينك" قلت: يا رسول الله كيف أبغضك، وبك هدانا الله؟ قال: "تبغض العرب، فتبغضني" وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية: ذكر عن محمد بن منصور الجواز، حدثنا سفيان عن أبي حسين قال: أبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد، فلما نظر إليه، راعه، فقال: من هذا؟ قالوا: ابن عباس ابن عم رسول لله صلى الله عليه وسلم فقال: { الله أعلم حيث يجعل رسالته }.

وقوله تعالى: { سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } الآية، هذا وعيد شديد من الله، وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله، والانقياد لهم فيما جاؤوا به، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار، وهو الذلة الدائمة، لما أنهم استكبروا، فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا؛ كقوله تعالى: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر: 60] أي: صاغرين ذليلين حقيرين، وقوله تعالى: { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً، وهو التلطف في التحيل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة؛ جزاء وفاقاً، { { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 49] كما قال تعالى: { { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [الطارق: 9] أي: تظهر المستترات والمكنونات والضمائر، وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان " والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.