قوله: { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَـٰنِهِ } قد اختلف أهل العلم في إعرابه، فذهب الأكثرون على أنه بدل إما من { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ } وما بينهما اعتراض، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلا يدخل تحت حكم الافتراء. ثم قال: { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } أي: اعتقده وطابت به نفسه واطمأن إليه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } وإما من المبتدأ الذي هو { أُوْلَـٰئِكَ } أو من الخبر الذي هو { ٱلْكَـٰذِبُونَ }. وذهب الزجاج إلى الأوّل. وقال الأخفش: إن { من } مبتدأ وخبره محذوف اكتفي منه بخبر { من } الثانية، كقولك: من يأتنا منكنّ نكرمه. وقيل: هو أي: { من } في { من كفر } منصوب على الذمّ؛ وقيل: إن من شرطية والجواب محذوف لأن جواب «من شرح» دالّ عليه، وهو كقول الأخفش، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على من والجواب على خبرها، فكأنه قيل على هذا من كفر بالله فعليهم غضب إلاّ من أكره، ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلاّ من الكافر لولا الإكراه.
قال القرطبي: أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر. وحكي عن محمد بن الحسن أنه إذا أظهر الكفر، كان مرتداً في الظاهر، وفيما بينه وبين الله على الإسلام، وتبين منه امرأته، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يرث أباه إن مات مسلماً، وهذا القول مردود على قائله، مدفوع بالكتاب والسنّة. وذهب الحسن البصري، والأوزاعي، والشافعي، وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول. وأما في الفعل فلا رخصة، مثل أن يكره على السجود لغير الله، ويدفعه ظاهر الآية، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب، لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الأصول.
وجملة { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ } في محل نصب على الحال من المستثنى، أي: إلا من كفر بإكراه، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وليس بعد هذا الوعيد العظيم، وهو الجمع للمرتدين، بين غضب الله وعظيم عذابه.
والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى الكفر بعد الإيمان، أو إلى الوعيد بالغضب والعذاب، والباء في { بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَوٰةَ الدنيا } للسببية، أي: ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا { عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } معطوف على { أَنَّهُمْ ٱسْتَحَبُّواْ } أي: ذلك بأنهم استحبوا، وبأن الله لا يهدي القوم الكافرين إلى الإيمان به.
ثم وصفهم بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } أي: الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة { ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ } فلم يفهموا المواعظ ولا سمعوها، ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق. وقد سبق تحقيق الطبع في أوّل البقرة، ثم أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدّمة، فقال: { وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ } عما يراد بهم، وضمير الفصل يفيد أنهم متناهون في الغفلة، إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه.
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَـٰسِرونَ } أي: الكاملون في الخسران، البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية، وقد تقدّم تحقيق الكلام في معنى { لاَ جَرَمَ } في مواضع، منها ما هو في هذه السورة.
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ } من دار الكفر إلى دار الإسلام، وخبر "إن" محذوف، والتقدير: لغفور رحيم، وإنما حذف لدلالة خبر { إن ربك }المتأخرة عليه. وقيل: الخبر هو { للذين هاجروا } أي: إن ربك لهم بالولاية والنصرة لا عليهم، وفيه بعد. وقيل: إن خبرها هو قوله { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }، و{ إن ربك } الثانية تأكيد للأولى. قال في الكشاف: «ثم» ها هنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء، يعني: الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك، وهم عمار وأصحابه، ويدل على ذلك ما روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح، وسيأتي بيان ذلك { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } أي: فتنهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر، وقرىء "فتنوا" على البناء للفاعل، أي: الذين فتنوا المؤمنين وعذبوهم على الإسلام { ثُمَّ جَـٰهَدُواْ } في سبيل الله { وصبروا } على ما أصابهم من الكفار، وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: كثير الغفران والرحمة لهم.
ومعنى الآية على قراءة من قرأ "فتنوا" على البناء للفاعل واضح ظاهر، أي: إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم، ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم. وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور، فالمعنى: أن هؤلاء المفتونين الذين تكلموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم وجاهدوا في الله وصبروا على المكاره لغفور لهم، رحيم بهم. وأما إذا كان سبب الآية هذه هو عبد الله بن أبي سرح الذي ارتدّ عن الإسلام ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام، فالمعنى: أن هذا المفتون في دينه بالردّة إذا أسلم وجاهد وصبر، فالله غفور له، رحيم به. والضمير في { بعدها } يرجع إلى الفتنة، أو إلى المهاجرة والجهاد والصبر، أو إلى الجميع.
{ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَـٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا } قال الزجاج: { يوم تأتي }منتصب بقوله: { رحيم }، أو بإضمار اذكر، أو ذكرهم، أو أنذرهم، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس، ولا بدّ من التغاير بين المضاف والمضاف إليه. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى: جملة بدن الإنسان، وبالنفس الثانية: الذات، فكأن قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، لا يهمه غيرها. ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها، فهو مجادل ومخاصم عن نفسه، لا يتفرّغ لغيرها يوم القيامة.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه:
"تفرّقوا عني، فمن كانت به قوّة فليتأخر إلى آخر الليل، ومن لم تكن به قوّة فليذهب في أوّل الليل، فإذا سمعتم بي قد استقرّت بي الأرض فألحقوا بي" ، فأصبح بلال المؤذن، وخباب، وعمار، وجارية من قريش كانت أسلمت، فأخذهم المشركون وأبو جهل، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس، ثم يلبسونها إياه، فإذا ألبسوها إياه، قال: أحد أحد، وأما خباب، فجعلوا يجرّونه في الشوك، وأما عمار، فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربع أوتاد، ثم مدّها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم، واشتدّ على عمار الذي كان تكلم به. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا" ؟ قال لا، فأنزل الله { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ }. وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، فتركوه، فلما أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
"ما وراءك؟" قال: شرّ، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: "كيف تجد قلبك" ؟ قال: مطمئناً بالإيمان. قال: "إن عادوا فعد" . فنزلت { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ } قال: ذاك عمار بن ياسر { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } عبد الله بن أبي سرح. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن عساكر عن أبي مالك في قوله: { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ } قال: نزلت في عمار بن ياسر، وفي الباب روايات مصرّحة بأنها نزلت في عمار ابن ياسر. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين قال: نزلت هذه الآية { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَـٰنِ } في عياش بن أبي ربيعة. وأخرج ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: في سورة النحل { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ثم نسخ واستثنى من ذلك فقال: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } الآية قال: وهو عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان، فلحق بالكفار. فأمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم فتح مكة، فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن مثله. وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } فيمن كان يفتن من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان قوم من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فنزلت فيهم { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ } الآية، فكتبوا إليهم بذلك: إنّ الله قد جعل لكم مخرجاً فأخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن: أن عيوناً لمسيلمة أخذوا رجلين من المسلمين، فأتوه بهما، فقال لأحدهما: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم. قال: أتشهد أني رسول الله؟ فأهوى إلى أذنيه فقال: إنّي أصمّ، فأمر به فقتل. وقال للآخر: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم، فأرسله فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له: "أما صاحبك، فمضى على إيمانه، وأما أنت فأخذت بالرخصة" وهو مرسل.