خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
١
يُنَزِّلُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوۤاْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱتَّقُونِ
٢
خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٣
خَلَقَ ٱلإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ
٤
وَٱلأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٥
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
٦
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ ٱلأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ
٧
وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٨
وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
٩
-النحل

فتح القدير

قوله: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي: عقابه للمشركين. وقال جماعة من المفسرين: القيامة. قال الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه. وقيل: إن المراد بأمر الله: حكمه بذلك، وقد وقع وأتى، فأما المحكوم به فإنه لم يقع، لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين، فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود. وقيل: إن المراد بإتيانه: إتيان مباديه ومقدّماته { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } نهاهم عن استعجاله، أي: فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت، وقد كان المشركون يستعجلون عذاب الله كما قال النضر بن الحارث { { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } [الأنفال: 32]، الآية. والمعنى: قرب أمر الله فلا تستعجلوه، وقد كان استعجالهم له على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة، وفي نهيهم عن الاستعجال تهكم بهم. { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي: تنزه وترفع عن إشراكهم، أو عن أن يكون له شريك، وشركهم هٰهنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب، أو قيام الساعة استهزاء وتكذيباً، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك، وأنه عاجز عنه والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق، لا من صفات الخالق، فكان ذلك شركاً.

{ يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } قرأ المفضل عن عاصم "تنزل الملائكة"، والأصل: تتنزل، فالفعل مسند إلى الملائكة. وقرأ الأعمش "تنزل" على البناء للمفعول، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم "ننزل" بالنون، والفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الباقون { ينزل الملائكة } بالياء التحتية إلاّ أن ابن كثير، وأبا عمرو يسكنان النون، والفاعل هو الله سبحانه؛ ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره، ونهاهم عن الاستعجال، تردّدوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته، والروح: الوحي، ومثله: { { يُلْقِى ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } [غافر: 15]. وسمي الوحي روحاً لأنه يحيـي قلوب المؤمنين، فإن من جملة الوحي: القرآن، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد. وقيل: المراد أرواح الخلائق. وقيل: الروح الرحمة. وقيل: الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح. قال الزجاج: الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره. وقال أبو عبيد: الروح هنا جبريل، وتكون الباء على هذا بمعنى مع، «ومن» في { مِنْ أَمْرِهِ } بيانية، أي: بأشياء أو مبتدئاً من أمره، أو صفة للروح، أو متعلق بـ { ينزل }، ومعنى { عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } على من اختصه بذلك، وهم الأنبياء { أَنْ أَنْذِرُواْ }. قال الزجاج: { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدل من الروح، أي: ينزلهم بأن أنذروا، و"أن" إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول، وإما مخففة من الثقيلة، وضمير الشأن مقدّر، أي: بأن الشأن أقول لكم أنذروا، أي: أعلموا الناس { أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } أي: مروهم بتوحيدي، وأعلموهم ذلك مع تخويفهم، لأن في الإنذار تخويفاً وتهديداً. والضمير في أنه للشأن. { فَٱتَّقُونِ } الخطاب للمستعجلين على طريق لالتفات، وهو تحذير لهم من الشرك بالله، ثم إن الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده، ذكر دلائل التوحيد فقال: { خُلِقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ } أي: أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليهما بالحق، أي: للدلالة على قدرته ووحدانيته. وقيل: المراد بالحق هنا: الفناء والزوال { تَعَالَى } الله { عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي: ترفع وتقدّس عن إشراكهم، أو عن شركة الذي يجعلونه شريكاً له.

ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية، قدّمه وخصه بالذكر، فقال: { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ } وهو اسم لجنس هذا النوع { مِن نُّطْفَةٍ } من جماد يخرج من حيوان، وهو المنيّ فنقله أطواراً إلى أن كملت صورته، ونفخ فيه الروح، وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش فيها { فَإِذَا هُوَ } بعد خلقه على هذه الصفة { خَصِيمٌ } أي: كثير الخصومة والمجادلة، والمعنى: أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته، ومعنى { مُّبِينٌ } ظاهر الخصومة وأضحها، وقيل: يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل، والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه ومثله قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ } [يۤس: 77].

ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع، فالامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها، فقال: { وَٱلأَنْعَـٰمَ خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي: الإبل، والبقر، والغنم، وأكثر ما يقال: نعم وأنعام للإبل، ويقال للمجموع، ولا يقال للغنم مفردة، ومنه قول حسان:

وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

فعطف الشاء على النعم، وهي هنا الإبل خاصة. قال الجوهري: والنعم: واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال: { فِيهَا دِفْء } الدفء: السخانة، وهو ما استدفىء به من أصوافها وأوبارها وأشعارها. والجملة في محلّ النصب على الحال { وَمَنَـٰفِعُ } معطوف على { دفء } وهي: درّها وركوبها ونتاجها، والحراثة بها ونحو ذلك. وقد قيل: إن الدفء: النتاج واللبن. قال في الصحاح: الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها، ثم قال: والدفء أيضاً: السخونة، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأوّل فلا بدّ من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحاً. وقيل: المراد بالمنافع النتاج خاصة؛ وقيل: الركوب { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي: من لحومها وشحومها. وخصّ هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها. وقيل: خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل، وغيره نادر.

{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } أي: لكم فيها مع ما تقدّم ذكره جمال، والجمال: ما يتجمل به ويتزين، والجمال: الحسن، والمعنى هنا: لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها { حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي: في هذين الوقتين، وهما وقت ردّها من مراعيها، ووقت تسريحها إليها، فالرواح رجوعها بالعشيّ من المراعي. والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة. يقال: سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً: إذا غدوت بها إلى المرعى، وقدّم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها، وخصّ هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها، لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد، وعند كونها في مراعيها هي متفرّقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب.

{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } الأثقال: جمع ثقل، وهو متاع المسافر من طعام وغيره، وسمي ثقلاً لأنه يثقل الإنسان حمله، وقيل: المراد أبدانهم { إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ ٱلأَنفُسِ } أي: لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم إلاّ بشق الأنفس لبعده عنكم، وعدم وجود ما يحمل ما لا بدّ لكم منه في السفر، وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين؛ وقيل: المراد بالبلد مكة، وقيل: اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب، { وشق الأنفس }: مشقتها. قرأ الجمهور بكسر الشين، وقرأ أبو جعفر بفتحها. قال الجوهري: والشق المشقة، ومنه قوله: { لَّمْ تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ ٱلأَنفُسِ } وحكى أبو عبيدة بفتح الشين، وهما بمعنى، ويجوز أن يكون المفتوح مصدراً من شققت عليه أشق شقاً. والمكسور بمعنى النصف. يقال: أخذت شق الشاة، وشقة الشاة، ويكون المعنى على هذا في الآية: لم تكونوا بالغيه إلاّ بذهاب نصف الأنفس من التعب، وقد امتنّ الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم، ثم خصّ الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم، والاستثناء من أعمّ العام، أي: لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلاّ بشقّ الأنفس.

{ وَٱلْخَيْلَ وَٱلْبِغَالَ وَٱلْحَمِيرَ } بالنصب عطفاً على الأنعام، أي: وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها. وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل. كضائن واحد الضأن. وقيل: لا واحد له. ثم علل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله: { لِتَرْكَبُوهَا } وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها، لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها وعطف { زِينَةُ } على محل { لتركبوها } لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها. ولم يقل: لتتزينوا بها، حتى يطابق { لتركبوها } لأن الركوب فعل المخاطبين، والزينة: فعل الزائن وهو الخالق. والتحقيق فيه: أن الركوب هو المعتبر في المقصود، بخلاف الزينة، فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية، لأنه يورث العجب، فكأنه سبحانه قال: خلقها لتركبوها، فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة. وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر، ولكنه غير مقصود بالذات.

وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل، قائلين بأن التعليل بالركوب يدلّ على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها. قالوا: ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر، وإخراجها عن الأنعام، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل. قالوا: ولو كان أكل الخيل جائزاً لكان ذكره، والامتنان به أولى من ذكر الركوب، لأنه أعظم فائدة منه، وقد ذهب إلى هذا مالك، وأبو حنيفة، وأصحابهما، والأوزاعي، ومجاهد وأبو عبيدة وغيرهم. وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدّثين وغيرهم إلى حلّ لحوم الخيل. ولا حجة لأهل القول الأوّل في التعليل بقوله: { لِتَرْكَبُوهَا } لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر، ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب. وأيضاً لو كانت هذه الآية تدلّ على تحريم الخيل، لدلت على تحريم الحمر الأهلية، وحينئذٍ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر، وقد قدّمنا أن هذه السورة مكية.

والحاصل: أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حلّ أكل لحوم الخيل. فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم، لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال، ودافعة لهذا الاستدلال. وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.

{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي: يخلق ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدّده ها هنا. وقيل: المراد: من أنواع الحشرات والهوامّ في أسافل الأرض، وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به. وقيل: هو ما أعدّ الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: هو خلق السوس في النبات، والدود في الفواكه؛ وقيل: عين تحت العرش؛ وقيل نهر من النور. وقيل: أرض بيضاء، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد.

{ وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } القصد: مصدر بمعنى الفاعل، فالمعنى: وعلى الله قاصد السبيل، أي: هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع؛ وقيل: هو على حذف مضاف، والتقدير: وعلى الله بيان قصد السبيل، والسبيل: الإسلام، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين. والقصد في السبيل هو كونه موصلاً إلى المطلوب، فالمعنى: وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب { وَمِنْهَا جَائِرٌ } الضمير في { منها } راجع إلى السبيل بمعنى: الطريق، لأنها تذكر وتؤنث. وقيل: راجع إليها بتقدير مضاف أي: ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل عنه، فلا يهتدي به، ومنه قول امرىء القيس:

ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل

وقيل: إن الطريق كناية عن صاحبها، والمعنى: ومنهم جائر عن سبيل الحق: أي عادل عنه، فلا يهتدي إليه، قيل: وهم أهل الأهواء المختلفة، وقيل: أهل الملل الكفرية، وفي مصحف عبد الله "ومنكم جائر"، وكذا قرأ عليّ، { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أجمعين } أي: ولو شاء أن يهديكم جميعاً إلى الطريق الصحيح، والمنهج الحق لفعل ذلك، ولكنه لم يشأ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق، والدلالة عليها { وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10]. وأما الإيصال إليها بالفعل، فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر، ولا من يستحق النار من المسلمين، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمناً، والبعض كافراً كما نطق بذلك القرآن في غير موضع.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: لما نزل { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فسكنوا. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزلت { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } قاموا، فنزلت { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ }. وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } قال: خروج محمد صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج قال: «لما نزلت هذه الآية { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إن هذا يزعم أن أمر الله أتى، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت { ٱقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حسابهم } [الأنبياء: 1] فقالوا: إن هذا يزعم مثلها أيضاً، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا: ما نراه نزل شيء، فنزلت { { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ ٱلْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [هود: 8]. الآية. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله: { أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ } قال: الأحكام والحدود والفرائض.

وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله: { يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ } قال: بالوحي. وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي عنه قال: الروح أمر من أمر الله، وخلق من خلق الله، وصورهم على صورة بني آدم. وما ينزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح. ثم تلا { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً } [النبأ: 38]. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن { يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ } قال: القرآن.

وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { لَكُمْ فِيهَا دِفْء } قال: الثياب { وَمَنَـٰفِعُ } قال: ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً، قال: نسل كل دابة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ } يعني: مكة { لَّمْ تَكُونُواْ بَـٰلِغِيهِ إِلاَّ بِشِقّ ٱلأَنفُسِ } قال: لو تكلفتموه، لم تطيقوه إلاّ بجهد شديد.

وقد ورد في حلّ أكل لحوم الخيل أحاديث منها في الصحيحين وغيرهما، من حديث أسماء، قالت: نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه. وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن جابر قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية. وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضاً.

وهما على شرط مسلم. وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر، قال: "نهى رسول الله عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في الخيل" . وأما ما أخرجه أبو عبيد، وأبو داود، والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير" ، ففي إسناده صالح بن يحيـى بن أبي المقدام، وفيه مقال. ولو فرضنا أن الحديث صحيح، لم يقو على معارضة أحاديث الحلّ، على أنه يكون أن هذا الحديث المصرّح بالتحريم متقدّم على يوم خيبر، فيكون منسوخاً.

وأخرج الخطيب وابن عساكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال: «البراذين». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مما خلق الله أرضاً من لؤلؤة بيضاء" . ثم ساق من أوصافها ما يدلّ على أن الحديث موضوع، ثم قال في آخره: «فذلك قوله { ويخلق ما لا تعلمون }». وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } يقول: على الله أن يبين الهدى والضلالة. { وَمِنْهَا جَائِرٌ } قال: السبل المتفرّقة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { وَعَلَى ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ } قال: على الله بيان حلاله، وحرامه، وطاعته، ومعصيته { وَمِنْهَا جَائِرٌ } قال: من السبل ناكب عن الحق. قال: وفي قراءة ابن مسعود "ومنكم جائر". وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ أنه كان يقرأ هذه الآية "ومنكم جائر".