خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً
٦١
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً
٦٢
قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً
٦٣
وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً
٦٤
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً
٦٥
-الإسراء

فتح القدير

لما ذكر سبحانه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة، أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك، حتى أن هذه عادة قديمة، سنها إبليس اللعين، وأيضاً لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ذكر ها هنا ما يحقق ذلك فقال: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع: في البقرة، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وصۤ، وقد تقدّم تفسيرها مبسوطاً فلنقتصر ها هنا على تفسير ما لم يتقدّم ذكره من الألفاظ، فقوله: { طِينًا } منتصب بنزع الخافض، أي: من طين، أو على الحال. قال الزجاج: المعنى لمن خلقته طيناً، وهو منصوب على الحال. { أَرَءيْتَكَ } أي: أخبرني عن هذا الذي فضلته عليّ لم فضلته؟ وقد { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الاعراف: 12] فحذف هذا للعلم به { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } أي: لأستولينّ عليهم بالإغواء والإضلال. قال الواحدي: أصله من احتناك الجراد الزرع، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده، هذا هو الأصل، ثم سمي الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكاً؛ وقيل معناه: لأسوقنّهم حيث شئت، وأقودنّهم حيث أردت، من قولهم: حنكت الفرس أحنكه حنكاً: إذا جعلت في فيه الرسن، والمعنى الأوّل أنسب بمعنى هذه الآية، ومنه قول الشاعر:

أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واختلفت

أي: استأصلت أموالنا، واللام في { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } هي الموطئة، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم، وأنه يجري منهم في مجاري الدم، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلاّ من عصم الله، وهم المرادون بقوله: { إِلاَّ قَلِيلاً } وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه: { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى: { { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } [سبأ: 20]. فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتماداً على الظن، وقيل: إنه استنبط ذلك من قول الملائكة { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } [البقرة: 30]، وقيل: علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات، أو ظنّ ذلك لأنه وسوس لآدم، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزماً، كما روي عن الحسن. { قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } أي: أطاعك { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } أي: إبليس ومن أطاعه { جَزَاء مَّوفُورًا } أي: وافراً مكملاً، يقال: وفرته أفره وفراً، ووفر المال بنفسه يفر وفوراً، فهو وافر، فهو مصدر، ومنه قول زهير:

ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتّقي الشتم يشتم

ثم كرّر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال: { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } أي: استزعج واستخف من استطعت من بني آدم، يقال: أفزه واستفزه أي: أزعجه واستخفه، والمعنى: أستخفهم بصوتك داعياً لهم إلى معصية الله، وقيل: هو الغناء واللهو واللعب والمزامير { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } قال الفراء وأبو عبيدة: أجلب من الجلبة والصياح، أي: صح عليهم. وقال الزجاج أي: أجمع عليهم كل ما تقدر من مكايدك. فالإجلاب: الجمع. والباء في { بخيلك } زائدة. وقال ابن السكيت: الإجلاب: الإعانة، والخيل تقع على الفرسان كقوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي»، وتقع على الأفراس، والرجل بسكون الجيم: جمع رجل كتاجر وتجر، وصاحب وصحب. وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة. قال أبو زيد: يقال: رجل ورجل، بمعنى راجل، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله. { وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلأمْوٰلِ وَٱلأوْلَـٰدِ } أما المشاركة في الأموال، فهي: كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع سواء كان أخذاً من غير حق، أو وضعاً في غير حق كالغصب والسرقة والربا، ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة، والمشاركة في الأولاد: دعوى الولد بغير سبب شرعي، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات وعبد العزى، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق، ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم، ثم قال: { وعدهُمْ } قال الفراء: قل لهم: لا جنة ولا نار. وقال الزجاج: وعدهم بأنهم لا يبعثون { وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُوراً } أي: باطلاً، وأصل الغرور: تزيين الخطأ بما يوهم الصواب؛ وقيل معناه: وعدهم النصرة على من خالفهم، وهذه الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد، وقيل: هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه. { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـٰنٌ } يعني: عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون لما في الإضافة من التشريف، وقيل: المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع { { إِلاَّ مَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ } [الحجر: 42] والمراد بالسلطان: التسلط { وَكَفَىٰ بِرَبّكَ وَكِيلاً } يتوكلون عليه، فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال إبليس إن آدم خلق من تراب من طين، خلق ضعيفاً وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً } فصدق ظنّه عليهم. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } قال: لأستولينّ. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد { لأحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ } قال: لأحتوينّهم. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لأضلنّهم. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد { مَّوفُورًا } قال: وافراً. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال: صوته: كل داع دعا إلى معصية الله { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ } قال: كل راكب في معصية الله { وَرَجِلِكَ } قال: كل راجل في معصية الله { وَشَارِكْهُمْ فِى ٱلأمْوٰلِ } قال: كل مال في معصية الله { وَٱلأوْلـٰدِ } قال: كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام. وأخرج الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه في الآية قال: كل خيل تسير في معصية الله، وكل مال أخذ بغير حقه، وكل ولد زنا. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: { ٱلأمَوَالِ } ما كانوا يحرّمون من أنعامهم { وَٱلأوْلـٰدِ } أولاد الزنا. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: { ٱلأمَوَالِ } البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله { وَٱلأوْلـٰدِ } سموا عبد الحارث وعبد شمس.