خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً
٥٤
وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً
٥٥
وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ وَٱتَّخَذُوۤاْ ءَايَٰتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً
٥٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَٰتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوۤاْ إِذاً أَبَداً
٥٧
وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً
٥٨
وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً
٥٩
-الكهف

فتح القدير

لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم، وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي: كرّرنا ورددنا { فِى هَـٰذَا القرآن للناس } أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم { مِن كُلّ مَثَلٍ } من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل، ختم الآية بقوله { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } قال الزجاج: المراد بالإنسان: الكافر، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى: { وَيُجَـٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَـٰطِلِ } وقيل: المراد به في الآية: النضر بن الحارث، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلاً، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: "ألا تصليان؟" فقلت: يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول: { وَكَانَ ٱلإِنْسَـٰنُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً }، وانتصاب جدلاً على التمييز. { وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأوَّلِينَ } قد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، وذكرنا أنّ (أن) الأولى في محل نصب، والثانية في محل رفع، والهدى: القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم، والناس هنا هم أهل مكة، والمعنى على حذف مضاف، أي: ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأوّلين، أو انتظار إتيان سنة الأوّلين، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأوّلين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال الزجاج: سنّتهم هو قولهم: { { إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } الآية [الأنفال: 2] { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي: عذاب الآخرة { قُبُلاً } قال الفراء: إن قبلاً جمع قبيل، أي: متفرقاً يتلو بعضه بعضاً، وقيل: عياناً، وقيل: فجأة. ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيـى بن وثاب وخلف { قُبُلاً } بضمتين فإنه جمع قبيل، نحو سبيل وسبل، والمراد: أصناف العذاب، ويناسب التفسير الثاني، أي: عياناً، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء أي: مقابلة ومعاينة، وقرىء بفتحتين على معنى: أو يأتيهم العذاب مستقبلاً، وانتصابه على الحال. فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته. { وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ } من رسلنا إلى الأمم { إِلا } حال كونهم { مُبَشّرِينَ } للمؤمنين { وَمُنذِرِينَ } للكافرين. فالاستثناء مفرّغ من أعمّ العام، وقد تقدّم تفسير هذا { وَيُجَـٰدِلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } أي: ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه وأصل الدحض: الزلق يقال: دحضت رجله، أي: زلقت تدحض دحضاً، ودحضت الشمس عن كبد السماء: زالت، ودحضت حجته دحوضاً. بطلت، ومن ذلك قول طرفة:

أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض

ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل { { مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } [الشعراء: 154]. ونحو ذلك: { وَٱتَّخَذُواْ ءايَـٰتِى } أي: القرآن { وَمَا أُنْذِرُواْ } به من الوعيد والتهديد { هزؤا } أي: لعباً وباطلاً، وقد تقدّم هذا في البقرة. { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِـئَايِـٰتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } أي: لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها وأعرض عن قبولها، ولم يتدبرها حقّ التدبر ويتفكر فيها حق التفكر { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من الكفر والمعاصي، فلم يتب عنها. قيل: والنسيان هنا بمعنى الترك، وقيل: هو على حقيقته { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } أي: أغطية، والأكنة: جمع كنان، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم { وفي آذنهم وقرا } أي: وجعلنا في آذانهم ثقلاً يمنع من استماعه، وقد تقدّم تفسير هذا في الأنعام { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً } لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم. { وَرَبُّكَ ٱلْغَفُورُ ذُو ٱلرَّحْمَةِ } أي: كثير المغفرة، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال: { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ } أي: بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض { لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ } لاستحقاقهم لذلك { بَلِ } جعل { لَّهُم مَّوْعِدٌ } أي: أجل مقدّر لعذابهم، قيل: هو عذاب الآخرة، وقيل: يوم بدر { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } أي: ملجأً يلجئون إليه. وقال أبو عبيدة: منجاً، وقيل: محيصاً، ومنه قول الشاعر:

لا وا ألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم

وقال الأعشى:

وقد أخالس ربّ البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل

أي ما ينجو. { وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ } أي: قرى عاد وثمود وأمثالها { أَهْلَكْنَـٰهُمْ } هذا خبر اسم الإشارة و{ القرى } صفته، والكلام على حذف مضاف، أي: أهل القرى أهلكناهم { لَمَّا ظَلَمُواْ } أي: وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } أي: وقتاً معيناً، وقرأ عاصم مهلكهم بفتح الميم واللام، وهو مصدر هلك، وأجاز الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم، وبذلك قرأ حفص، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام. وقال الزجاج مهلك: اسم للزمان، والتقدير: لوقت مهلكهم.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأوَّلِينَ } قال: عقوبة الأولين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله: { قُبُلاً } قال: جهاراً. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: فجأة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } قال: نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة. وأخرج أيضاً عن ابن عباس { بِمَا كَسَبُواْ } يقول: بما عملوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } قال: الموعد يوم القيامة. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { مَوْئِلاً } قال: ملجأ. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد { مَوْئِلاً } قال: محرزاً.