خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً
٤١
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً
٤٢
يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً
٤٣
يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً
٤٤
يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
٤٥
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً
٤٦
قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً
٤٧
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىۤ أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً
٤٨
فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً
٤٩
وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً
٥٠
-مريم

فتح القدير

قوله: { وَٱذْكُرْ } معطوف على "وأنذر"، والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله: { { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرٰهِيمَ } [الشعراء: 69]، وجملة { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً } تعليل لما تقدّم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكره، وهي معترضة ما بين البدل والمبدل منه، والصدّيق: كثير الصدق، وانتصاب { نبياً } على أنه خبر آخر لكان، أي اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين، و { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ } بدل اشتمال من إبراهيم، وتعليق الذكر الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدّم تقريره، التاء في { يا أبت } عوض عن الياء، ولهذا لا يجتمعان، والاستفهام في { لِمَ تَعْبُدُ } للإنكار والتوبيخ { مَا لاَ يَسْمَعُ } ما تقوله من الثناء عليه والدعاء له { وَلاَ يَبْصِرُ } ما تفعله من عبادته ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب، يجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعمّ من ذلك، أي لا يسمع شيئاً من المسموعات، ولا يبصر شيئاً من المبصرات { وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } من الأشياء، فلا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضرراً، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر. أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح، وصدّر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه، وامتثالاً لأمر ربه. ثم كرّر دعوته إلى الحق فقال: { يٰأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ } فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه، وأنه قد تجدّد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق، ويقتدر به على إرشاد الضالّ، ولهذا أمره باتباعه فقال: { فَٱتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه. ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال: { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَـٰنَ } أي لا تطعه، فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان، ثم علل ذلك بقوله: { إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً } حين ترك ما أمر به من السجود لآدم، ومن أطاع من هو عاصٍ لله سبحانه فهو عاصٍ لله، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحلّ به النقم. قال الكسائي: العصيّ والعاصي بمعنى واحد.

ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال: { يٰأَبَتِ إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } قال الفراء: معنى أخاف هنا: أعلم. وقال الأكثرون: إن الخوف هنا محمول على ظاهره، لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه، ومعنى الخوف على الغير: هو أن يظنّ وصول الضرر إلى ذلك الغير { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـٰنِ وَلِيّاً } أي إنك إذا أطعت الشيطان كنت معه في النار واللعنة، فتكون بهذا السبب موالياً، أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه: { { ٱلاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [الزخرف: 67]. وقيل: الوليّ بمعنى التالي. وقيل: الوليّ بمعنى القريب، أي تكون للشيطان قريباً منه في النار، فلما مرّت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة، فقَال { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى يٰإِبْرٰهِيمُ } والاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب، والمعنى: أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره؟ ثم توعده فقال: { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } أي بالحجارة. وقيل: باللسان، فيكون معناه: لأشتمنك. وقيل: معناه لأضربنك. وقيل: لأظهرنّ أمرك { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } أي زماناً طويلاً. قال الكسائي: يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة، بمعنى: الملاوة من الزمان، وهو الطويل، ومنه قول مهلهل:

فتصدّعت صمّ الجبال لموته وبكت عليه المرملات ملياً

وقيل: معناه اعتزلني سالم العرض لا تصيبك مني معرّة، واختار هذا ابن جرير، فملياً على هذا منتصب على الحال من إبراهيم وعلى القول الأوّل منتصب على الظرفية، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد { قَالَ سَلَـٰمٌ عَلَيْكَ } أي تحية توديع ومتاركة كقوله: { { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـٰهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [الفرقان: 63]. وقيل: معناه: أمنة مني لك، قاله ابن جرير. وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله، والأوّل أولى، وبه قال الجمهور. وقيل: معناه الدعاء له بالسلامة، استمالة له ورفقاً به ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته:

والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه

وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر، وتحق عليه الكلمة، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر: { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }. بعد قوله: { وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرٰهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } [التوبة: 114] وجملة: { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } تعليل لما قبلها؛ والمعنى: سأطلب لك المغفرة من الله، فإنه كان بي كثير البرّ واللطف. يقال: حفي به وتحفّى إذا برّه. قال الكسائي: يقال حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء: إنه كان بي حفياً، أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته.

ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال: { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي { وَٱدْعُواْ رَبّي } وحده { عَسَىٰ أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا } أي خائباً. وقيل: عاصياً. قيل: أراد بهذا الدعاء: هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمأن إليهم عند وحشته. وقيل: أراد دعاءه لأبيه بالهداية، وعسى للشك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا، والأوّل أولى لقوله: { فَلَمَّا ٱعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } أي جعلنا هؤلاء الموهوبين له، أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } أي كل واحد منهما، وانتصاب { كلا } على أنه المفعول الأوّل لجعلنا قدّم عليه للتخصيص، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم أي كل واحد منهم جعلنا نبياً، لا بعضهم دون بعض { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } بأن جعلناهم أنبياء، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوّة هي من باب الرحمة. وقيل: المراد بالرحمة هنا: المال، وقيل: الأولاد، وقيل: الكتاب، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } لسان الصدق: الثناء الحسن، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به كما عبر باليد عن العطية. وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد.

وقد أخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { لأرْجُمَنَّكَ } قال: لأشتمنك { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } قال: حيناً. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } قال: اجتنبني سوياً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعكرمة { مَلِيّاً } دهراً. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: سالماً. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } قال: لطيفاً. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } قال: يقول: وهبنا له إسحاق ويعقوب ابن ابنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } قال: الثناء الحسن.