خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَٰتٍ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَيُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً
٧٣
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً
٧٤
قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً
٧٥
وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً
٧٦
أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً
٧٧
أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً
٧٨
كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً
٧٩
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً
٨٠
-مريم

فتح القدير

الضمير في { عَلَيْهِمْ } راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله: { أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أي: هؤلاء إذا قرىء عليهم القرآن تعذروا بالدنيا، وقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا، ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعزّ أعداءه، ومعنى البينات: الواضحات التي لا تلتبس معانيها. وقيل: ظاهرات الإعجاز. وقيل: إنها حجج وبراهين، والأوّل أولى. وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم. وقيل: المراد بالذين كفروا هنا: هم المتمردّون المصرّون منهم، ومعنى قالوا { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } قالوا: لأجلهم. وقيل: هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله: { { وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ } [البقرة: 247] أي خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم { أَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً } المراد بالفريقين: المؤمنون والكافرون، كأنهم قالوا: أفريقنا خير أم فريقكم؟ قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد "مقاماً" بضم الميم، وهو موضع الإقامة، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإقامة، وقرأ الباقون بالفتح أي منزلاً ومسكناً. وقيل: المقام: الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة، والمعنى: أي الفريقين أكبر جاهاً وأكثر أنصاراً وأعواناً، والنديّ والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، ومنه قوله تعالى: { { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } [العنكبوت: 29]. وناداه جالسه في النادي، ومنه دار الندوة، لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم، ومنه أيضاً قول الشاعر:

أنادي به آل الوليد جعفرا

{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } القرن: الأمة والجماعة { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا } الأثاث: المال أجمع، الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع. وقيل: هو متاع البيت خاصة. وقيل: هو الجديد من الفرش. وقيل: اللباس خاصة. واختلفت القراءات في: { ورئياً } فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان "ورياً" بياء مشدّدة، وفي ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء والمعنى على هذه القراءة: هم أحسن منظراً وبه قول جمهور المفسرين، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس، أو حسن الأبدان وتنعمها، أو مجموع الأمرين. وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير: "ورئياً" بالهمز، وحكاها ورش عن نافع، وهشام عن ابن عامر، ومعناها معنى القراءة الأولى. قال الجوهري: من همز جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي:

أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث

ومن لم يهمز: إما أن يكون من تخفيف الهمزة، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم رياً، أي امتلأت وحسنت. وقد ذكر الزجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي. وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرف قرأ بياء واحدة خفيفة، فقيل: إن هذه القراءة غلط، ووجهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت إحدى الياءين، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء، وروي مثل ذلك عن أبيّ بن كعب وسعيد بن جبير والأعصم المكي واليزيدي. والزيّ: الهيئة والحسن. قيل: ويجوز أن يكون من زويت أي: جمعت، فيكون أصلها زوياً فقلبت الواو ياء، والزيّ محاسن مجموعة.

{ قُلْ مَن كَانَ فِى ٱلضَّلَـٰلَةِ } أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية، أي من كان مستقرّاً في الضلالة { فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً } هذا وإن كان على صيغة الأمر، فالمراد به الخبر، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال، ويقال لهم يوم القيامة: { { أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } [فاطر: 37]. أو للاستدراج كقوله سبحانه: { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [آل عمران: 178] وقيل: المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس. قال الزجاج: تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمدّه فيها، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول: أفعل ذلك وآمر به نفسي { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } يعني: الذين مدّ لهم في الضلالة، وجاء بضمير الجماعة اعتباراً بمعنى من، كما أن قوله: { كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ } اعتبار بلفظها، وهذه غاية للمدّ، لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد { إِمَّا ٱلعَذَابَ وَإِمَّا ٱلسَّاعَةَ } هذا تفصيل لقوله: { ما يوعدون } أي هذا الذي توعدون هو أحد أمرين: إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، وإما يوم القيامة وما يحلّ بهم حينئذٍ من العذاب الأخروي { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } هذا جواب الشرط، وهو جواب على المفتخرين، أيّ هؤلاء القائلون: { أيّ الفريقين خير مقاماً } إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين، أو الأخروي، فسيعلمون عند ذلك من هو شرّ مكاناً من الفريقين، وأضعف جنداً منهما، أي أنصاراً وأعواناً. والمعنى: أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شرّ مكاناً لا خير مكاناً، وأضعف جنداً لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين؛ وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جنداً ضعفاء، بل لا جند لهم أصلاً كما في قوله سبحانه: { { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } [الكهف: 43].

ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال: { وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى } وذلك أن بعض الهدى يجرّ إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير وقيل: المراد بالزيادة: العبادة من المؤمنين، والواو في { ويزيد } للاستئناف، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين وقيل: الواو للعطف على { فليمدد } وقيل: للعطف على جملة { من كان في الضلالة }. قال الزجاج: المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقيناً كما جعل جزاء الكافرين أن يمدّهم في ضلالتهم { وَٱلْبَـٰقِيَاتُ ٱلصَّـٰلِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } هي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية، ومعنى كونها خيراً عند الله ثواباً: أنها أنفع عائدة مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } المردّ ها هنا مصدر كالردّ، والمعنى: وخير مردّاً للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها، والمردّ: المرجع والعاقبة والتفضل للتهكم بهم للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلاً.

ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ بِـئَايَـٰتِنَا } أي أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعمّ كل آية ومن جملتها آية البعث، والفاء للعطف على مقدّر يدل عليه المقام، أي أنظرت فرأيت، واللام في { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } هي الموطئة للقسم، كأنه قال: والله لأوتينّ في الآخرة مالاً وولداً، أي أنظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته.

ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله، فقال: { أَطَّلَعَ } على { ٱلْغَيْبَ } أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة { أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين وقيل: المعنى: أنظر في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الرحمٰن عهداً؛ وقيل: معنى { أم اتخذ عند الرحمن عهداً } أم قال: لا إلٰه إلا الله فأرحمه بها. وقيل: المعنى أم قدّم عملاً صالحاً فهو يرجوه. واطلع مأخوذ من قولهم: اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه. وقرأ حمزة والكسائي ويحيـى بن وثاب والأعمش: "وولداً" بضم الواو، والباقون بفتحها، فقيل: هما لغتان معناهما واحد، يقال: ولد وولد كما يقال: عدم وعُدم، قال الحارث بن حلزّة:

ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالاً وولداً

وقال آخر:

فليت فلاناً كان في بطن أمه وليت فلاناً كان ولد حمار

وقيل: الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله: { لأوتينّ مالاً وولداً } أنه يؤتى ذلك في الدنيا. وقال جماعة: في الجنة، وقيل: المعنى: إن أقمت على دين آبائي لأوتين. وقيل: المعنى: لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً.

{ كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ }: "كلا" حرف ردع وزجر، أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد، سيكتب ما يقول أي سنحفظ عليه ما يقوله فنجاز به في الآخرة، أو سنظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطوّل له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء. { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه. والمعنى: مسمى ما يقول ومصداقه. وقيل: المعنى نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره. { وَيَأْتِينَا فَرْداً } أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد، بل نسلبه ذلك، فكيف يطمع في أن نؤتيه. وقيل: المراد بما يقول: نفس القول لا مسماه، والمعنى: إنما يقول هذا القول ما دام حياً، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه، والأوّل أولى.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: { أَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً } قال: قريش تقوله لها ولأصحاب محمد. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { خَيْرٌ مَّقَاماً } قال: المنازل { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } قال: المجالس، وفي قوله: { أَحْسَنُ أَثَاثاً } قال: المتاع والمال { ورئياً } قال: المنظر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: { قُلْ مَن كَانَ فِي ٱلضَّلَـٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً }: فليدعه الله في طغيانه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبيّ: «قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة».

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله: { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي كَفَرَ } من حديث خباب بن الأرت قال: كنت رجلاً قيناً وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل الله فيه هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } قال: لا إلٰه إلا الله يرجو بها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } قال: ماله وولده.