خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ
١٢٩
وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ ٱصْطَفَيْنَاهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١٣٠
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٣١
وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ
١٣٢
-البقرة

فتح القدير

الضمير في قوله: { وَٱبْعَثْ فِيهِمْ } راجع إلى الأمة المسلمة المذكورة سابقاً. وقرأ أبيّ: «وابعث في آخرهم» ويحتمل أن يكون الضمير راجعاً إلى الذرية. وقد أجاب الله لإبراهيم عليه السلام هذه الدعوة، فبعث في ذريته { رَسُولاً مّنْهُمْ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم. وقد أخبر عن نفسه بأنه دعوة إبراهيم كما سيأتي تخريج ذلك إن شاء الله، ومراده هذه الدعوة. والرسول هو: المرسل. قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله ناقة مرسال، ورسلة إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق. ويقال جاء القوم أرسالاً، أي: بعضهم في أثر بعض، والمراد بالكتاب: القرآن. والمراد بالحكمة: المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم للشريعة، وقوله: { يُزَكّيهِمْ } أي: يطهرهم من الشرك، وسائر المعاصي. وقيل: إن المراد بالآيات ظاهر الألفاظ، والكتاب معانيها، والحكمة: الحكم، وهو: مراد الله بالخطاب، والعزيز: الذي لا يعجزه شيء قاله ابن كيسان. وقال الكسائي: ٱلْعَزِيزُ الغالب.

{ وَمَن يَرْغَبُ } في موضع رفع على الابتداء، والاستفهام للإنكار. وقوله: { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } في موضع الخبر. وقيل: هو: بدل من فاعل يرغب، والتقدير: وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا من سفه نفسه. قال الزجاج: سفه بمعنى جهل، أي: جهل أمر نفسه، فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه. وحكى ثعلب، والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفَّه بفتح الفاء مشدّدة. قال الأخفش: { سَفِهَ نَفْسَهُ } أي: فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً، وقيل: إن نفسه منتصب بنزع الخافض. وقيل: هو: تمييز، وهذان ضعيفان جداً، وأما سفُه بضم الفاء، فلا يتعدى قاله المبرد، وثعلب. والاصطفاء: الاختيار، أي: اخترناه في الدنيا، وجعلناه في الآخرة من الصالحين، فكيف يرغب عن ملته راغب؟

وقوله: { إِذْ قَالَ لَهُ } يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله: { اصطفيناه } أي: اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو: اذكر. قال في الكشاف: كأنه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله، والضمير في قوله: { وَوَصَّىٰ بِهَا } راجع إلى الملة أو إلى الكلمة: أي: أسلمت لربّ العالمين. قال القرطبي: وهو أصوب؛ لأنه أقرب مذكور، أي: قولوا أسلمنا. انتهى. والأوّل أرجح؛ لأن المطلوب ممن بعده هو: إتباع ملته لا مجرد التكلم بكلمة الإسلام، فالتوصية بذلك أليق بإبراهيم، وأولى بهم. ووصى وأوصى بمعنى، وقرىء بهما، وفي مصحف عثمان: { وأوصى } وهي قراءة أهل الشام، والمدينة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود { وَوَصَّىٰ } وهي قراءة الباقين. { وَيَعْقُوبَ } معطوف على إبراهيم أي: وأوصى يعقوب بنيه كما أوصى إبراهيم بنيه. وقرأ عمر بن فايد الأسواري، وإسماعيل ابن عبد الله المكي، بنصب يعقوب، فيكون داخلاً فيمن أوصاه إبراهيم. قال القشيري: وهو بعيد، لأن يعقوب لم يدرك جدّه إبراهيم، وإنما ولد بعد موته. وقوله: { يا بني } هو بتقدير "أن". وقد قرأ أبيّ، وابن مسعود، والضحاك بإثباتها. قال الفراء: ألغيت "أن"، لأن التوصية كالقول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول "أن" وجاز فيه إلغاؤها. وقيل: إنه على تقدير القول أي قائلاً: يا بنيّ. روى ذلك عن البصريين. وقوله: { ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدّينَ } أي: اختاره لكم، والمراد: ملته التي لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه، وهي الملة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } فيه إيجاز بليغ. والمراد: الزموا الإسلام، ولا تفارقوه حتى تموتوا.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ } قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملته، واتخذوا اليهودية، والنصرانية بدعة ليست من الله؛ تركوا ملة إبراهيم الإسلام، وبذلك بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله: { وَلَقَدِ اصطفياه } قال: اخترناه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرٰهِيمُ بَنِيهِ } قال: وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بنيه بمثل ذلك. وأخرج الثعلبي، عن فضيل بن عياض في قوله: { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي: محسنون بربكم الظنّ.