خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
١٩٠
وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ
١٩١
فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٩٢
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ للَّهِ فَإِنِ ٱنْتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ
١٩٣
-البقرة

فتح القدير

لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعاً قبل الهجرة لقوله تعالى: { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ } [المائدة: 13] وقوله: { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } [المزمل: 10] وقوله: { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [الغاشية: 22] وقوله: { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ } [المؤمنون: 96] ونحو ذلك مما نزل بمكة؛ فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال، ونزلت هذه الآية، وقيل: إن أوّل ما نزل قوله تعالى: { { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } [الحج: 39] فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزل قوله تعالى: { { ٱفاقتلوا المشركين } [التوبة: 5] وقوله تعالى: { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } [التوبة: 36]. وقال جماعة من السلف: إن المراد بقوله: { الذين يقاتلونكم } من عدا النساء، والصبيان، والرهبان، ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأوّل هو: مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية. والمراد به على القول الثاني: مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدّم ذكره.

قوله: { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } يقال ثقف يثقف ثقفاً، ورجل ثقيف: إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور. قال في الكشاف: والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة، ومنه رجل ثقف: سريع الأخذ لأقرانه. انتهى. ومنه قول حسان:

فإما يثقفنّ بني لؤى جذيمة إنّ قتلهم دواء

قوله: { وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي: مكة. قال ابن جرير: الخطاب للمهاجرين، والضمير لكفار قريش. انتهى. وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فأخرج من مكة مَن لم يُسلم عند أن فتحها الله عليه. قوله: { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } أي: الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم، وهي: رجوعكم إلى الكفر أشدّ من القتل. وقيل: المراد بالفتنة: المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه، أو ماله، أو اهله، أو عرضه، وقيل: إن المراد بالفتنة: الشرك الذي عليه المشركون؛ لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشدّ مما يستعظمونه، وقيل: المراد فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام اشدّ من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم. والظاهر أن المراد: الفتنة في الدين بأيّ سبب كان، وعلى أيّ صورة اتفقت، فإنها أشدّ من القتل.

قوله: { وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } الآية. اختلف أهل العلم في ذلك، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، وأنه لا يجوز القتال في الحرم، إلا بعد أن يتعدّى بالقتال فيه، فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له، وهذا هو الحق. وقالت طائفة: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 36] ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها لم تحلّ لأحد قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار" وهو في الصحيح. وقد احتجَ القائلون بالنسخ بقتله صلى الله عليه وسلم لابن خَطَل، وهو متعلق بأستار الكعبة: ويجاب عنه، بأنه وقع في تلك الساعة التي أحلّ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } أي: عن قتالكم، ودخلوا في الإسلام. قوله: { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي أن لا تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له، فمن دخل في الإسلام، وأقلع عن الشرك لم يحلّ قتاله. قيل: المراد بالفتنة هنا: الشرك، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف. قوله: { فَلاَ عُدْوٰنَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي: لا تعتدوا إلا على من ظلم، وهو من لم ينته عن الفتنة، ولم يدخل في الإسلام، وإنما سمي جزاء الظالمين عدواناً مشاكلة كقوله تعالى: { { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [الشورى: 4]. وقوله: { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [البقرة: 194].

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية قوله تعالى: { وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } الآية أنها أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله، ويكفّ عمن كفّ عنه، حتى نزلت سورة براءة. وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد في هذه الآية قال: إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: { وَلاَ تَعْتَدُواْ } يقول لا تقتلوا النساء، والصبيان، والشيخ الكبير، ولا من ألقى السلم وكفّ يده، فإن فعلتم، فقد اعتديتم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز؛ أنه قال: إن هذه الآية في النساء، والذرية.

وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي العالية في قوله: { وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } يقول: الشرك أشدّ من القتل. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في الآية قال: ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من أن يقتل محقاً. وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو داود في ناسخه، وابن جرير، عن قتادة في قوله: { وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِيهِ } قال: حتى يبدءوا بالقتال، ثم نسخ بعد ذلك فقال: { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ }. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه عن قتادة أن قوله: { وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } وقوله: { يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [البقرة: 217] فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين جميعاً في براءة قوله: { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمْ كَافَّةً } [التوبة: 36] وأخرج ابن جرير، عن مجاهد في قوله: { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } قال: فإن تابوا. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله: { وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } يقول: شرك بالله: { وَيَكُونَ الدّينُ } ويخلص التوحيد لله. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في الآية، قال: الشرك. وقوله: { فَإِنِ ٱنتَهَواْ فَلاَ عُدْوٰنَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } قال: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله: { وَيَكُونَ ٱلدّينُ للَّهِ } يقول: حتى لا تعبدوا إلا الله. وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله: { فَلاَ عُدْوٰنَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ } قال: هم من أبى يقول لا إله إلا الله. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة نحوه.