قوله: { وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَلَداً } هؤلاء القائلون هم خزاعة، فإنهم قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: هم اليهود، ويصح حمل الآية على كل من جعل لله ولدا. وقد قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت طائفة من العرب: الملائكة بنات الله. ثم نزه عزّ وجلّ نفسه. فقال: { سُبْحَـٰنَهُ } أي تنزيهاً له عن ذلك، وهو مقول على ألسنة العباد. ثم أضرب عن قولهم وأبطله فقال: { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } أي ليسوا كما قالوا، بل هم عباد لله سبحانه مكرمون بكرامته لهم، مقرّبون عنده. وقرىء: "مكرمون" بالتشديد، وأجاز الزجاج والفراء نصب عباد على معنى: بل اتخذ عباداً، ثم وصفهم بصفة أخرى فقال: { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ } أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله أو يأمرهم به. كذا قال ابن قتيبة وغيره، وفي هذا دليل على كمال طاعتهم وانقيادهم. وقرىء: "لا يسبقونه" بضم الباء من سبقته أسبقه { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } أي هم العاملون بما يأمرهم الله به، التابعون له المطيعون لربهم.
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } هذه الجملة تعليل لما قبلها، أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون، أو يعلم ما بين أيديهم وهو الآخرة، وما خلفهم وهو الدنيا، ووجه التعليل أنهم إذا علموا بأنه عالم بما قدّموا وأخروا، لم يعملوا عملاً ولم يقولوا قولاً إلا بأمره { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } أي: يشفع الشافعون له، وهو من رضي عنه، وقيل: هم أهل لا إله إلا الله، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة يشفعون في الدار الآخرة { وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } أي من خشيتهم منه فالمصدر مضاف إلى المفعول، والخشية: الخوف مع التعظيم، والإشفاق: الخوف مع التوقع والحذر، أي لا يأمنون مكر الله.
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إِلَـٰهٌ مّن دُونِهِ } أي من يقل من الملائكة إني إله من دون الله. قال المفسرون: عني بهذا إبليس؛ لأنه لم يقل أحد من الملائكة إني إلٰه إلا إبليس؛ وقيل: الإشارة إلى جميع الملائكة { فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } أي فذلك القائل على سبيل الفرض، والتقدير: نجزيه جهنم بسبب هذا القول الذي قاله، كما نجزي غيره من المجرمين { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلظَّـٰلِمِينَ } أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الظالمين، أو مثل ما جعلنا جزاء هذا القائل جهنم، فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعها، والمراد بالظالمين: المشركون.
{ أَوَ لَمْ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } الهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر، والرؤية هي القلبية، أي ألم يتفكروا أو لم يعلموا { أن ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ * كَانَتَا رَتْقاً } قال الأخفش: إنما قال: { كانتا }، لأنهما صنفان أي جماعتا السمٰوات والأرضين كما قال سبحانه:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ } [فاطر: 41] وقال الزجاج: إنما قال { كانتا } لأنه يعبر عن السمٰوات بلفظ الواحد، لأن السمٰوات كانت سماء واحدة، وكذلك الأرضون. والرتق. السد ضدّ الفتق، يقال: رتقت الفتق أرتقه فارتتق، أي التأم، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج، يعني: أنهما كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله بينهما، وقال { رتقاً } ولم يقل "رتقين" لأنه مصدر، والتقدير: كانتا ذواتي رتق، ومعنى { فَفَتَقْنَـٰهُمَا } ففصلناهما، أي فصلنا بعضهما من بعض، فرفعنا السماء، وأبقينا الأرض مكانها { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَيْء حَيّ } أي أحيينا بالماء الذي ننزله من السماء كل شيء، فيشمل الحيوان والنبات، والمعنى: أن الماء سبب حياة كل شيء. وقيل: المراد بالماء هنا: النطفة، وبه قال أكثر المفسرين، وهذا احتجاج على المشركين بقدرة الله سبحانه وبديع صنعه، وقد تقدم تفسير هذه الآية، والهمزة في { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } للإنكار عليهم، حيث لم يؤمنوا مع وجود ما يقتضيه من الآيات الربانية. { وَجَعَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ رَوَاسِيَ } أي جبالاً ثوابت { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } الميد التحرّك والدوران، أي لئلا تتحرك وتدور بهم، أو كراهة ذلك، وقد تقدم تفسير ذلك في النحل مستوفى { وَجَعَلْنَا فِيهَا } أي في الرواسي، أو في الأرض { فِجَاجاً } قال أبو عبيدة: هي المسالك. وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج و { سُبُلاً } تفسير للفجاج، لأن الفج قد لا يكون طريقاً نافذاً مسلوكاً { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } إلى مصالح معاشهم، وما تدعو إليه حاجاتهم { وَجَعَلْنَا ٱلسَّمَاء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } عن أن يقع ويسقط على الأرض كقوله:
{ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ } [الحج: 65]. وقال الفراء: محفوظاً بالنجوم من الشيطان كقوله: { { وَحَفِظْنَـٰهَا مِن كُلّ شَيْطَـٰنٍ رَّجِيمٍ } [الحجر: 17]. وقيل: محفوظاً: لا يحتاج إلى عماد، وقيل: المراد بالمحفوظ هنا: المرفوع. وقيل: محفوظاً عن الشرك والمعاصي. وقيل: محفوظاً عن الهدم والنقض { وَهُمْ عَنْ ءَايَـٰتِهَا مُعْرِضُونَ } أضاف الآيات إلى السماء، لأنها مجعولة فيها، وذلك كالشمس والقمر ونحوهما، ومعنى الإعراض: أنهم لا يتدبرون فيها، ولا يتفكرون فيما توجبه من الإيمان. { وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَـٰرَ وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } هذا تذكير لهم بنعمة أخرى مما أنعم به عليهم، وذلك بأنه خلق لهم الليل ليسكنوا فيه، والنهار ليتصرفوا فيه في معايشهم، وخلق الشمس والقمر أي جعل الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، ليعلموا عدد الشهور والحساب كما تقدّم بيانه في سبحان { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي كل واحد من الشمس والقمر والنجوم في فلك يسبحون، أي يجرون في وسط الفلك، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء، والجمع في الفعل باعتبار المطالع، قال سيبويه: إنه لما أخبر عنهنّ بفعل من يعقل، وجعلهنّ في الطاعة بمنزلة من يعقل، جعل الضمير عنهنّ ضمير العقلاء، ولم يقل يسبحن أو تسبح، وكذا قال الفراء. وقال الكسائي: إنما قال: { يسبحون } لأنه رأس آية. والفلك واحد أفلاك النجوم. وأصل الكلمة من الدوران، ومنه فلكة المغزل لاستدارتها. { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } أي دوام البقاء في الدنيا { أَفَإِيْن مّتَّ } بأجلك المحتوم { فَهُمُ ٱلْخَـٰلِدُونَ } أي أفهم الخالدون؟ قال الفراء: جاء بالفاء لتدل على الشرط لأنه جواب قولهم سيموت. قال: ويجوز حذف الفاء وإضمارها، والمعنى: إن متّ فهم يموتون أيضاً، فلا شماتة في الموت. وقرىء: "مت" بكسر الميم وضمها لغتان: وكان سبب نزول هذه الآية قول المشركين فيما حكاه الله عنهم:
{ { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ ٱلْمَنُونِ } [الطور: 30]. { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ } أي ذائقة مفارقة جسدها، فلا يبقى أحد من ذوات الأنفس المخلوقة كائناً ما كان. { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } أي نختبركم بالشدّة والرخاء، لننظر كيف شكركم وصبركم. والمراد: أنه سبحانه يعاملهم معاملة من يبلوهم، و{ فتنة } مصدر { لنبلوكم } من غير لفظه { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير، وإن شراً فشرّ. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قالت اليهود: إن الله عزّ وجلّ صاهر الجنّ فكانت بنيهم الملائكة، فقال الله تكذيباً لهم { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } أي الملائكة ليس كما قالوا، بل عباد أكرمهم بعبادته. { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ } يثني عليهم { وَلاَ يَشْفَعُونَ } قال: لا تشفع الملائكة يوم القيامة { إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } قال: لأهل التوحيد وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: { إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } قال: لأهل التوحيد لمن رضي عنه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في الآية قال: قول لا إلٰه إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في الآية قال: الذين ارتضاهم لشهادة أن لا إلٰه إلا الله.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ } قال:
"إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عباس في قوله: { كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَـٰهُمَا } قال: فتقت السماء بالغيث، وفتقت الأرض بالنبات. وأخرج ابن أبي حاتم عنه { كَانَتَا رَتْقاً } قال: لا يخرج منهما شيء، وذكر مثل ما تقدم. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير عنه { كَانَتَا رَتْقاً } قال: ملتصقتين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي العالية في قوله: { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شَيْء حَيّ } قال: نطفة الرجل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } قال: بين الجبال. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { كُلٌّ فِي فَلَكٍ } قال: دوران { يَسْبَحُونَ } قال: يجرون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة عنه: { كُلٌّ فِي فَلَكٍ } قال: فلك كفلكة المغزل { يَسْبَحُونَ } قال: يدورون في أبواب السماء، كما تدور الفلكة في المغزل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو فلك السماء.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قال: دخل أبو بكر على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد مات فقبّله وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه، ثم تلا: { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } الآية، وقوله:
{ { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [الزمر: 30]. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } قال: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة.