خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذٰلِكَ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ
٤٧
وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ
٤٨
وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ
٤٩
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٥٠
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥١
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَآئِزُون
٥٢
وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
٥٣
قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
٥٤
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٥٥
وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٥٦
لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَأْوَٰهُمُ ٱلنَّارُ وَلَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٥٧
-النور

فتح القدير

شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم، فقال: { وَيِقُولُونَ امَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعْنَا } وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فإنهم كما حكى الله عنهم هاهنا ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله، وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان، لا عن اعتقاد صحيح، ولهذا قال: { ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مّنْهُمْ } أي: من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي: من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان، والطاعة، ثم حكم عليهم سبحانه وتعالى بعدم الإيمان، فقال: { وَمَا أُوْلَـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة، فيشمل الحكم بنفي الإيمان جميع القائلين، ويندرج تحتهم من تولى اندراجاً أوّلياً. وقيل: إن الإشارة بقوله { أُوْلَـٰئِكَ } راجع إلى من تولى، والأوّل أولى. والكلام مشتمل على حكمين: الحكم الأوّل: على بعضهم بالتولي، والحكم الثاني: على جميعهم بعدم الإيمان. وقيل: أراد بمن تولى: من تولى عن قبول حكمه صلى الله عليه وسلم، وقيل: أراد بذلك رؤساء المنافقين، وقيل: أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها وورودها على سبب خاص، كما سيأتي بيانه.

ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقاً منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله، وإلى رسوله في خصوماتهم، فقال: { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } أي: ليحكم الرسول بينهم، فالضمير راجع إليه؛ لأنه المباشر للحكم، وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه، ومثل ذلك قوله تعالى: { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62]. و«إذا» في قوله { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } هي الفجائية أي: فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إلى الله والرسول، ثم ذكر سبحانه: أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحقّ عليهم، وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلاّ بالحق فقال { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة، يقال: أذعن لي بحقي أي: طاوعني لما كنت ألتمس منه، وصار يسرع إليه، وبه قال مجاهد. وقال الأخفش، وابن الأعرابي: مذعنين مقرّين. وقال النقاش: مذعنين: خاضعين.

ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم، فقال: { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ }، وهذه الهمزة للتوبيخ، والتقريع لهم، والمرض النفاق أي: أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم { أَمِ ٱرْتَابُواْ }، وشكوا في أمر نبوّته صلى الله عليه وسلم، وعدله في الحكم { أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ }، والحيف: الميل في الحكم؛ يقال: حاف في قضيته أي: جار فيما حكم به، ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدّرها بالاستفهام الإنكاري، فقال { بَلْ أُوْلَـٰئِك هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أي: ليس ذلك لشيء مما ذكر، بل لظلمهم، وعنادهم؛ فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم، وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب، والسنة، العادلين في القضاء. هو: حكم بحكم الله، وحكم رسوله، فالداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله، وإلى رسوله أي: إلى حكمهما. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق.

قال القرطبي: في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم، لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذمّ، فقال { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } الآية. انتهى. فإن كان القاضي مقصراً لا يعلم بأحكام الكتاب، والسنة، ولا يعقل حجج الله، ومعاني كلامه، وكلام رسوله، بل كان جاهلاً جهلاً بسيطاً، وهو من لا علم له بشيء من ذلك، أو جهلاً مركباً، وهو: من لا علم عنده بما ذكرنا، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شيء من علم الرأي، فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم، فاعتقاده باطل؛ فمن كان من القضاة هكذا، فلا تجب الإجابة إليه؛ لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه، بل هو من قضاة الطاغوت، وحكام الباطل، فإنّ ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب، والسنة، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده. وإذا تقرّر لديك هذا، وفهمته حق فهمه علمت: أن التقليد، والإنتساب إلى عالم من العلماء دون غيره، والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي، وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة، والفواقر الموحشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه: "القول المفيد في حكم التقليد" وفي مؤلفنا الذي سميناه: "أدب الطلب ومنتهى الأرب" فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية، فليرجع إليهما.

ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه إذا دعوا إلى حكم الله، ورسوله، فقال { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } قرأ الجمهور بنصب: { قول } على أنه خبر كان واسمها { أن يقولوا }. وقرأ عليّ والحسن وابن أبي إسحاق برفع: "قول" على أنه الاسم، وأن المصدرية، وما في حيزها الخبر، وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرّر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان، وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسماً. وأما سيبويه فقد خير بين كلّ معرفتين، ولم يفرق هذه التفرقة، وقد قدّمنا الكلام على الدعوة إلى الله، ورسوله للحكم بين المتخاصمين، وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة، ومن لا تجب { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي: أن يقولوا هذا القول لا قولاً آخر، وهذا، وإن كان على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر. والمعنى: أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة، والإذعان. قال مقاتل، وغيره: يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم، وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه، ويضرّهم، ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: { أُوْلَـٰئِك } أي: المؤمنون الذين قالوا هذا القول { هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } أي: الفائزون بخير الدنيا والآخرة.

ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال: { وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُون } وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها من حسن حال المؤمنين، وترغيب من عداهم إلى الدخول في عدادهم، والمتابعة لهم في طاعة الله ورسوله، والخشية من الله عزّ وجلّ، والتقوى له. قرأ حفص { ويتقه } بإسكان القاف على نية الجزم. وقرأ الباقون بكسرها، لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والمثنى عن أبي عمرو وحفص وأشبع كسرة الهاء الباقون. قال ابن الأنباري: وقراءة حفص هي على لغة من قال: لم أر زيداً، ولم أشتر طعاماً، يسقطون الياء للجزم، ثم يسكنون الحرف الذي قبلها، ومنه قول الشاعر:

قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً

وقول الآخر:

عجبت لمولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان

وأصله يلد بكسر اللام، وسكون الدال للجزم، فلما سكن اللام التقى ساكنان، فلو حرك الأوّل لرجع إلى ما وقع الفرار منه، فحرك ثانيهما، وهو: الدال. ويمكن أن يقال: إنه حرك الأوّل على أصل التقاء الساكنين، وبقي السكون على الدال لبيان ما عليه أهل هذه اللغة، ولا يضرّ الرجوع إلى ما وقع الفرار منه، فهذه الحركة غير تلك الحركة، والإشارة بقوله: { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَائِزُون } إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة، والخشية، والتقوى أي: هم الفائزون بالنعيم الدنيوي والأخروي لا من عداهم.

ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم بالخروج إلى الغزو لخرجوا، فقال: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } أي: لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن، و{ جهد أيمانهم } منتصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف الناصب له أي: أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهداً. ومعنى { جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ }: طاقة ما قدروا أن يحلفوا، مأخوذ من قولهم: جهد نفسه: إذا بلغ طاقتها، وأقصى وسعها. وقيل: هو منتصب على الحال والتقدير: مجتهدين في أيمانهم، كقولهم: افعل ذلك جهدك، وطاقتك، وقد خلط الزمخشري الوجهين، فجعلهما واحداً. وجواب القسم قوله: { لَيُخْرِجَنَّ } ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة، وأيمانهم فاجرة ردّ الله عليهم، فقال { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } أي: ردّ عليهم زاجراً لهم، وقل لهم: لا تقسموا أي: لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة، والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به، وهاهنا تمّ الكلام. ثم ابتدأ، فقال: { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ }، وارتفاع طاعة على أنها خبر مبتدأ محذوف أي: طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد، ويجوز أن تكون طاعة مبتدأ، لأنها قد خصصت بالصفة، ويكون الخبر مقدّراً أي: طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم، ويجوز أن ترتفع بفعل محذوف أي: لتكن منكم طاعة، أو لتوجد، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلاّ إذا تقدّم ما يشعر به. وقرأ زيد بن عليّ، والترمذي "طاعة" بالنصب على المصدر لفعل محذوف أي: أطيعوا طاعة { إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الأعمال، وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم، وهذه الجملة تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق.

ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم: أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله، فقال: { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ } طاعة ظاهرة، وباطنة بخلوص اعتقاد، وصحة نية، وهذا التكرير منه تعالى لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله: { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } في حكم الأمر بالطاعة، وقيل: إنهما مختلفان، فالأوّل نهي بطريق الردّ، والتوبيخ، والثاني أمر بطريق التكليف لهم، والإيجاب عليهم { فَإِن تَوَلَّوْاْ } خطاب للمأمورين، وأصله: فإن تتولوا، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم، والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة، والانقياد، وجواب الشرط قوله: { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ } أي: فاعلموا أنما على النبي صلى الله عليه وسلم ما حمل مما أمر به من التبليغ، وقد فعل، وعليكم ما حملتم أي: ما أمرتم به من الطاعة، وهو وعيد لهم، كأنه قال لهم: فإن توليتم، فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل { وَإِن تُطِيعُوهُ } فيما أمركم به، ونهاكم عنه { تَهْتَدُواْ } إلى الحق، وترشدوا إلى الخير، وتفوزوا بالأجر، وجملة: { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ } مقرّرة لما قبلها، واللام إما للعهد، فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، وإما للجنس، فيراد كل رسول، والبلاغ المبين: التبليغ الواضح، أو الموضح. قيل: يجوز أن يكون قوله: { فَإِن تَوَلَّوْاْ } ماضياً، وتكون الواو لضمير الغائبين، وتكون هذه الجملة الشرطية مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأوّل أرجح. ويؤيده الخطاب في قوله { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ }، وفي قوله { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ }، ويؤيده أيضاً قراءة البزي "فإن تولوا" بتشديد التاء، وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين.

{ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب لهدايتهم، وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة. وقيل: هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل الصالحات لا يختص بهم، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله، فقد أطاع الله ورسوله، واللام في { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأَرْضِ } جواب لقسم محذوف، أو جواب للوعد بتنزيله منزلة القسم، لأنه ناجز لا محالة، ومعنى { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ }: ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال: إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة، وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر قوله: { كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } كل من استخلفه الله في أرضه، فلا يخصّ ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها. قرأ الجمهور { كَمَا ٱسْتَخْلَفَ } بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسىٰ بن عمر، وأبو بكر، والمفضل، عن عاصم بضمها على البناء للمفعول، ومحل الكاف النصب على المصدرية أي: استخلافاً كما استخلف، وجملة { وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ } معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا: التثبيت، والتقرير أي: يجعله الله ثابتاً مقرّراً،ويوسع لهم في البلاد، ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا: الإسلام، كما في قوله: { { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً } [المائدة: 3]. ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أوّلاً، وهو جعلهم ملوكاً، وذكر التمكين ثانياً، فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض، والطروّ، بل على وجه الاستقرار والثبات، بحيث يكون الملك لهم، ولعقبهم من بعدهم.

وجملة { وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } معطوفة على التي قبلها. قرأ ابن كثير وابن محيصن ويعقوب وأبو بكر: "ليبدلنهم" بالتخفيف من أبدل، وهي قراءة الحسن، واختارها أبو حاتم. وقرأ الباقون بالتشديد من بدّل، واختارها أبو عبيد، وهما لغتان، وزيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى، فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيـىٰ ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقاً، وأنه يقال: بدّلته أي: غيرته، وأبدلته: أزلته، وجعلت غيره. قال النحاس، وهذا القول صحيح. والمعنى: أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلاّ الله سبحانه، ولا يرجون غيره. وقد كان المسلمون قبل الهجرة، وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلاّ في السلاح، ولا يمسون ويصبحون إلاّ على ترقب لنزول المضرّة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن، والدعة، وأذلّ الله لهم شياطين المشركين، وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض، ومكنهم منها، فلله الحمد، وجملة { يَعْبُدُونَنِي } في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وجملة { لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني أي: يعبدونني، غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء، وقيل: معناه لا يراؤون بعبادتي أحداً، وقيل: معناه لا يخافون غيري، وقيل: معناه لا يحبون غيري { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ } أي: من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمرّ على الكفر، أو من كفر بعد إيمان، فأولئك الكافرون، هم الفاسقون؛ أي: الكاملون في الفسق. وهو الخروج عن الطاعة، والطغيان في الكفر.

وجملة { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّـلاَة } معطوفة على مقدّر يدلّ عليه ما تقدّم، كأنه قيل لهم: فآمنوا، واعملوا صالحاً، وأقيموا الصلاة، وقيل: معطوف على { وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ }، وقيل التقدير: فلا تكفروا، وأقيموا الصلاة. وقد تقدّم الكلام على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكرّر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد، وخصه بالطاعة، لأن طاعته طاعة لله، ولم يذكر ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرّر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي: افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه { لا تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى ٱلأَرْضِ } قرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو حيوة "لا يحسبنّ" بالتحتية بمعنى: لا تحسبنّ الذين كفروا، وقرأ الباقون بالفوقية أي: لا تحسبنّ يا محمد، والموصول المفعول الأوّل، ومعجزين الثاني، لأن الحسبان يتعدّى إلى مفعولين، قاله الزجاج والفرّاء وأبو علي. وأما على القراءة الأولى، فيكون المفعول الأوّل محذوفاً أي: لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم. قال النحاس: وما علمت أحداً بصرياً ولا كوفياً إلاّ وهو يخطّىء قراءة حمزة، و{ معجزين } معناه: فائتين. وقد تقدّم تفسيره، وتفسير ما بعده.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ } الآية قال: أناس من المنافقين أظهروا الإيمان، وهم في ذلك يصدّون عن سبيل الله وطاعته، وجهاد مع رسوله صلى الله عليه وسلم. وأخرجوا أيضاً عن الحسن قال: إن الرجل كان يكون بينه، وبين الرجل خصومة، أو منازعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا دعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محقّ أذعن، وعلم أن النبي سيقضي له بالحقّ، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض، وقال: أنطلق إلى فلان، فأنزل الله سبحانه: { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلى قوله: { هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان بينه وبين أخيه شيء، فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين، فلم يجب، فهو ظالم لا حقّ له" . قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه: وهذا حديث غريب، وهو مرسل. وقال ابن العربي: هذا حديث باطل، فأما قوله: فهو ظالم، فكلام صحيح. وأما قوله: فلا حق له، فلا يصح. ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق. انتهى. وأقول: أما كون الحديث مرسلاً، فظاهر. وأما دعوى كونه باطلاً، فمحتاجة إلى برهان، فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم كما ذكرنا، ويبعد كل البعد أن ينفق عليهم ما هو باطل، وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: قال ابن أبي حاتم: حدّثنا أبيّ حدّثنا موسى بن إسماعيل حدّثنا مبارك حدّثنا الحسن فذكره. وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع. ويشهد له ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حقّ له" . انتهى. ولا يخفاك أن قضاة العدل، وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدّمنا لك قريباً هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب، والسنة، المبينون للناس ما نزل إليهم.

وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ } الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال: ذلك في شأن الجهاد، قال: يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } قال: أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد: { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } يقول: قد عرفت طاعتهم أي: إنكم تكذبون به. وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال: قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا؟ قال: "فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم" . وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال: قلت: يا رسول... فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سئل: إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا؟ قال: "قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم" .

وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ } الآية. قال: فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال: يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة" ، فأنزل الله: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأَرْضِ } إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، وٱتخذوا الحجر والشرط وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت: { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ } الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس: { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } قال: لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال: { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ }: العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { مُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ } قال: سابقين في الأرض.