خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ
٦٧
لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٦٨
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٦٩
وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ
٧٠
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٧١
قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ
٧٢
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ
٧٣
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ
٧٤
وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ
٧٥
إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٧٦
وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ
٧٧
إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ
٧٨
فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقِّ ٱلْمُبِينِ
٧٩
إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ وَلاَ تُسْمِعُ ٱلصُّمَّ ٱلدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ
٨٠
وَمَآ أَنتَ بِهَادِي ٱلْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ
٨١
وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ
٨٢
-النمل

فتح القدير

لما ذكر سبحانه أن المشركين في شكّ من البعث، وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم، وهي مجرّد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم تراباً، فقال: { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَاؤُنَا أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ }. والعامل في "إذا" محذوف دلّ عليه { مخرجون } تقديره: أنبعث، أو نخرج إذا كنا، وإنما لم يعمل فيه مخرجون لتوسط همزة الاستفهام، وإنّ ولام الابتداء بينهما. قرأ أبو عمرو باستفهامين إلاّ أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم، وحمزة باستفهامين، إلاّ أنهما حققا الهمزتين. وقرأ نافع بهمزة. وقرأ ابن عامر وورش ويعقوب { أإذا } بهمزتين و{ إننا } بنونين على الخبر، ورجح أبو عبيد قراءة نافع، وردّ على من جمع بين استفهامين؛ ومعنى الآية: أنهم استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء بعد أن قد صاروا تراباً، ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو تكذيب للبعث، فقالوا: { لَقَدْ وُعِدْنَا هَـٰذَا } يعنون: البعث { نَحْنُ وَءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ } أي من قبل وعد محمد لنا، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير الإنكار مصدّرة بالقسم لزيادة التقرير { إِنَّ هَذَا } الوعد بالبعث { إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة، وقد تقدّم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنون.

ثم أوعدهم سبحانه على عدم قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث. فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء وما عوقبوا به، وكيف كانت عاقبتهم، فقال: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلاْرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ } بما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث، ومعنى النظر هو: مشاهدة آثارهم بالبصر فإن في المشاهدة زيادة اعتبار. وقيل: المعنى: فانظروا بقلوبكم، وبصائركم كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم، والأوّل أولى لأمرهم بالسير في الأرض { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لما وقع منهم من الإصرار على الكفر { وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ } الضيق: الحرج، يقال: ضاق الشيء ضيقاً بالفتح، وضيقاً بالكسر قرىء بهما، وهما لغتان. قال ابن السكيت: يقال: في صدر فلان ضيق وضيق، وهو ما تضيق عنه الصدور. وقد تقدّم تفسير هذه الآية في آخر سورة النحل { وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } أي بالعذاب الذي تعدنا به { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } في ذلك.

{ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } يقال: ردفت الرجل، وأردفته: إذا ركبت خلفه، وردفه: إذا أتبعه، وجاء في أثره، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم، ولحقكم، فتكون اللام زائدة للتأكيد، أو بمعنى: اقترب لكم، ودنا لكم، فتكون غير زائدة. قال ابن شجرة: معنى ردف لكم: تبعكم، قال: ومنه ردف المرأة؛ لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبي ذؤيب:

عاد السواد بياضاً في مفارقه لا مرحباً ببياض الشيب إذ ردفا

قال الجوهري: وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى. قال خزيمة بن مالك بن نهد:

إذا الجوزاء أردفت الثريا ظننت بآل فاطمة الظنونا

قال الفراء: ردف لكم دنا لكم، ولهذا قيل: لكم. وقرأ الأعرج: "ردف لكم" بفتح الدال، وهي لغة، والكسر أشهر. وقرأ ابن عباس "أزف لكم" وارتفاع { بَعْضُ ٱلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } أي على أنه فاعل ردف، والمراد: بعض الذي تستعجلونه من العذاب أي عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك، قيل: هو عذابهم بالقتل يوم بدر، وقيل: هو عذاب القبر. ثم ذكر سبحانه فضله في تأخير العذاب، فقال: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } في تأخير العقوبة، والأولى أن تحمل الآية على العموم، ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } فضله وإنعامه ولا يعرفون حق إحسانه.

ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم، فقال: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } أي ما تخفيه. قرأ الجمهور: { تكن } بضم التاء من أكنّ. وقرأ ابن محيصن وابن السميفع وحميد بفتح التاء وضم الكاف، يقال: كننته بمعنى سترته وخفيت أثره { وَمَا يُعْلِنُونَ } وما يظهرون من أقوالهم وأفعالهم. { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَـٰبٍ مُّبِينٍ } قال المفسرون: ما من شيء غائب، وأمر يغيب عن الخلق في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين إلاّ هو مبين في اللوح المحفوظ، وغائبة هي من الصفات الغالبة والتاء للمبالغة. قال الحسن: الغائبة هنا هي: القيامة. وقال مقاتل: علم ما تستعجلون من العذاب هو مبين عند الله وإن غاب عن الخلق. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه، وغيبه عنهم مبين في أمّ الكتاب، فكيف يخفى عليه شيء من ذلك؟ ومن جملة ذلك ما يستعجلونه من العذاب فإنه موقت بوقت، ومؤجل بأجل علمه عند الله فكيف يستعجلونه قبل أجله المضروب له؟

{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرٰءيلَ أَكْثَرَ ٱلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وذلك لأن أهل الكتاب تفرّقوا فرقاً، وتحزّبوا أحزاباً يطعن بعضهم على بعض، ويتبرأ بعضهم من بعض، فنزل القرآن مبيناً لما اختلفوا فيه من الحق، فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ويدفع تفرّقهم. { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤمِنِينَ } أي وإنّ القرآن لهدى ورحمة لمن آمن بالله، وتابع رسوله، وخصّ المؤمنين؛ لأنهم المنتفعون به، ومن جملتهم من آمن من بني إسرائيل. { إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ } أي يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل بما يحكم به من الحق، فيجازي المحق ويعاقب المبطل، وقيل: يقضي بينهم في الدنيا، فيظهر ما حرّفوه. قرأ الجمهور: { بحكمه } بضم الحاء وسكون الكاف. وقرأ جناح بكسرها وفتح الكاف جمع حكمة { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } العزيز: الذي لا يغالب، والعليم بما يحكم به، أو الكثير العلم.

ثم أمره سبحانه بالتوكل وقلة المبالاة، فقال: { فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } والفاء لترتيب الأمر على ما تقدّم ذكره، والمعنى: فوّض إليه أمرك، واعتمد عليه فإنه ناصرك. ثم علل ذلك بعلتين: الأولى: قوله { إِنَّكَ عَلَى ٱلْحَقّ ٱلْمُبِينِ } أي الظاهر، وقيل: المظهر. والعلة الثانية: قوله: { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع، أو كحال الصمّ الذين لا يسمعون، ولا يفهمون، ولا يهتدون صار ذلك سبباً قوياً في عدم الاعتداد بهم، شبه الكفار بالموتى الذين لا حسّ لهم ولا عقل، وبالصمّ الذين لا يسمعون المواعظ، ولا يجيبون الدعاء إلى الله. ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه وتأكيده، فقال: { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } أي إذا أعرضوا عن الحق إعراضاً تاماً، فإن الأصمّ لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلاً فكيف إذا كان معرضاً عنه مولياً مدبراً. وظاهر نفي إسماع الموتى العموم، فلا يخصّ منه إلاّ ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم خاطب القتلى في قليب بدر، فقيل له: يا رسول الله إنما تكلم أجساداً لا أرواح لها، وكذلك ما ورد من أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق: "لا يسمع" بالتحتية مفتوحة، وفتح الميم، وفاعله الصمّ. وقرأ الباقون: { تسمع } بضم الفوقية، وكسر الميم من أسمع. قال قتادة: الأصمّ إذا ولى مدبراً، ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان.

ثم ضرب العمى مثلاً لهم، فقال: { وَمَا أَنتَ بِهَادِي ٱلْعُمْيِ عَن ضَلَـٰلَتِهِمْ } أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشاداً يوصله إلى المطلوب منه وهو الإيمان، وليس في وسعك ذلك، ومثله قوله: { { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56] قرأ الجمهور بإضافة هادي إلى العمي. وقرأ يحيـى بن الحارث، وأبو حيان: "بهاد العمي" بتنوين هادٍ. وقرأ حمزة: "تهدي" فعلاً مضارعاً، وفي حرف عبد الله: "وما أن تهدي العمي". { إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } أي ما تسمع إلاّ من يؤمن لا من يكفر، والمراد بمن يؤمن بالآيات: من يصدّق القرآن، وجملة: { فَهُم مُّسْلِمُونَ } تعليل للإيمان، أي فهم منقادون مخلصون.

ثم هدّد العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها: فقال: { وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم }.

واختلف في معنى وقوع القول عليهم، فقال قتادة: وجب الغضب عليهم. وقال مجاهد: حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقيل: حق العذاب عليهم، وقيل: وجب السخط، والمعاني متقاربة. وقيل: المراد بالقول ما نطق به القرآن من مجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها، وقيل: وقع القول بموت العلماء، وذهاب العلم. وقيل: إذا لم يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر. والحاصل أن المراد بوقع: وجب، والمراد بالقول: مضمونه، أو أطلق المصدر على المفعول أي القول، وجواب الشرط: { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ }.

واختلف في هذه الدابة على أقوال، فقيل: إنها فصيل ناقة صالح يخرج عند اقتراب القيامة ويكون من أشراط الساعة. وقيل: هي دابة ذات شعر، وقوائم طوال يقال لها: الجساسة. وقيل: هي دابة على خلقة بني آدم، وهي في السحاب، وقوائمها في الأرض. وقيل: رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن إيَّل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرّ، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعاً. وقيل: هي الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة، والمراد: أنها هي التي تخرج في آخر الزمان، وقيل: هي دابة ما لها ذنب ولها لحية، وقيل: هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار. وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره، وقد رجح القول الأوّل القرطبي في تفسيره.

واختلف من أيّ موضع تخرج؟ فقيل: من جبل الصفا بمكة، وقيل: تخرج من جبل أبي قبيس. وقيل: لها ثلاث خرجات: خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس، وتكثر الدماء ثم تكمن، وتخرج في القرى ثم تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها. وقيل: تخرج من بين الركن والمقام. وقيل: تخرج في تهامة. وقيل: من مسجد الكوفة من حيث فار التنور. وقيل من أرض الطائف. وقيل: من صخرة من شعب أجياد. وقيل: من صدع في الكعبة. واختلف في معنى قوله: { تكلمهم } فقيل: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام. وقيل: تكلمهم بما يسوؤهم. وقيل: تكلمهم بقوله تعالى: { أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } أي بخروجها؛ لأن خروجها من الآيات. قرأ الجمهور: { تكلمهم } من التكليم، ويدلّ عليه قراءة أبيّ: "تنبئهم"، وقرأ ابن عباس وأبو زرعة وأبو رجاء والحسن: "تكلمهم" بفتح الفوقية، وسكون الكاف من الكلم، وهو الجرح. قال عكرمة: أي تسمهم وسماً، وقيل: تجرحهم. وقيل: إن قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم بفتح الكاف، وسكون اللام، وهو الجرح، والتشديد للتكثير، قاله أبو حاتم. قرأ الجمهور: "إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون" بكسر إن على الاستئناف، وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق بفتح «أن». قال الأخفش: المعنى على قراءة الفتح: "بأن الناس". وكذا قرأ ابن مسعود: "بأن الناس" بالباء. وقال أبو عبيد: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها أي: تخبرهم أن الناس، وعلى هذه القراءة فالذي تكلم الناس به هو قوله: { أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } كما قدّمنا الإشارة إلى ذلك. وأما على قراءة الكسر فالجملة مستأنفة كما قدّمنا، ولا تكون من كلام الدابة. وقد صرّح بذلك جماعة من المفسرين، وجزم به الكسائي والفراء. وقال الأخفش: إن كسر «إن» هو على تقدير القول أي تقول لهم: "إِنَّ ٱلنَّاسَ" إلخ، فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى القراءة الثانية، والمراد بالناس في الآية: هم الناس على العموم، فيدخل في ذلك كل مكلف، وقيل: المراد الكفار خاصة، وقيل: كفار مكة، والأوّل أولى.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } قال: اقترب لكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } قال: يعلم ما عملوا بالليل والنهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً: { وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ } الآية يقول: ما من شيء في السماء والأرض سرًّا ولا علانية إلا يعلمه. وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله: { وَإِذَا وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم } الآية قال: إذا لم يأمروا بمعروف، ولم ينهوا عن منكر. وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي العالية: أنه فسر { وَقَعَ ٱلْقَوْلُ عَلَيْهِم } بما أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن.

وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { دَابَّةً مّنَ ٱلأَرْضِ تُكَلّمُهُمْ } قال: تحدّثهم. وأخرج ابن جرير عنه قال: كلامها: تنبئهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي داود نفيع الأعمى قال: سألت ابن عباس عن قوله: { تُكَلّمُهُمْ } يعني: هل هو من التكليم باللسان، أو من الكلم، وهو الجرح؟ فقال: كل ذلك، والله تفعل، تكلم المؤمن وتكلم الكافر أي تجرحه. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس ذلك حديثاً، ولا كلاماً، ولكنها سمة تسم من أمرها الله به، فيكون خروجها من الصفا ليلة منى، فيصبحون بين رأسها وذنبها لا يدحض داحض، ولا يجرح جارح، حتى إذا فرغت مما أمرها الله به فهلك من هلك، ونجا من نجا، كان أوّل خطوة تضعها بإنطاكية" . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الدابة ذات وبر وريش، مؤلفة فيها من كل لون، لها أربع قوائم تخرج بعقب من الحاج. وأخرج أحمد وابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة، فيقال له: ممن اشتريتها؟ فيقول: من الرجل المخطم" . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: "إن للدابة ثلاث خرجات" ؛ وذكر نحو ما قدّمنا. وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد رفعه قال: "تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة" . وأخرج سعيد بن منصور ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تخرج من بعض أودية تهامة.

وأخرج الطيالسي وأحمد ونعيم بن حماد والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم، وتخطم أنف الكافر بالعصا، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر" ، وأخرج الطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاريّ قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة، فقال: "لها ثلاث خرجات من الدهر" . وذكر نحو ما قدّمنا في حديث طويل. وفي صفتها ومكان خروجها وما تصنعه ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف. وأما كونها تخرج، وكونها من علامات الساعة، فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة. ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث حذيفة مرفوعاً: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات" . وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم وفي السنن الأربعة، وكحديث: "بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها، والدجال، والدابة" . فإنه في صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وكحديث ابن عمر مرفوعاً: "إن أوّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى" فإنه في صحيح مسلم أيضاً.