لما سمع موسى قول الله سبحانه: { فَذَانِكَ بُرْهَانَـٰنِ مِن رَّبِّك إِلَىٰ فِرْعَوْنَ } طلب منه سبحانه أن يقوّي قلبه، فقال: { رَبّ إِنّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً } يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } بها. { وَأَخِى هَـارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسَاناً } لأنه كان في لسان موسى حبسة كما تقدّم بيانه، والفصاحة لغةً: الخلوص، يقال: فصح اللبن، وأفصح: فهو فصيح، أي خلص من الرغوة، ومنه فصح الرجل: جادت لغته، وأفصح: تكلم بالعربية. وقيل: الفصيح: الذي ينطق، والأعجم: الذي لا ينطق. وأما في اصطلاح أهل البيان فالفصاحة: خلوص الكلمة عن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس. وفصاحة الكلام: خلوصه من ضعف التأليف، والتعقيد. وانتصاب { رِدْءاً } على الحال، والردء: المعين، من أردأته، أي أعنته، يقال: فلان ردء فلان: إذا كان ينصره، ويشدّ ظهره، ومنه قول الشاعر:
ألم تر أن أصرم كان ردئي وخير الناس في قلّ ومال
وحذفت الهمزة تخفيفاً في قراءة نافع، وأبي جعفر، ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم: أردى على المائة: إذا زاد عليها، فكان المعنى: أرسله معي زيادة في تصديقي، ومنه قول الشاعر:وأسمر خطياً كأن كعوبه نوى القسب قد أردى ذراعاً على العشر
وروي البيت في الصحاح بلفظ قد أربى، والقسب: الصلب، وهو الثمر اليابس الذي يتفتت في الفم، وهو صلب النواة. { يُصَدّقُنِي } قرأ عاصم وحمزة: { يصدقني } بالرفع على الاستئناف، أو الصفة لـ { ردءاً }، أو الحال من مفعول أرسله، وقرأ الباقون بالجزم على جواب الأمر، وقرأ أبي وزيد بن عليّ: "يصدقون" أي فرعون وملؤه { إِنّي أَخَافُ أَن يُكَذّبُونِ } إذا لم يكن معي هارون لعدم انطلاق لساني بالمحاجة. { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي نقويك به، فشدّ العضد كناية عن التقوية، ويقال في دعاء الخير: شدّ الله عضدك، وفي ضدّه: فتّ الله في عضدك. قرأ الجمهور: { عضُدك } بفتح العين. وقرأ الحسين وزيد ابنا عليّ بضمها. وروي عن الحسن أيضاً أنه قرأ بضمة وسكون. وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما. { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَـٰناً } أي حجة وبرهاناً، أو تسلطاً عليه، وعلى قومه { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة، و{ بِـئَايَـٰتِنَا } متعلق بمحذوف، أي تمتنعان منهم بآياتنا، أو اذهبا بآياتنا. وقيل: الباء للقسم، وجوابه { يصلون } وما أضعف هذا القول. وقال الأخفش وابن جرير: في الكلام تقديم، وتأخير، والتقدير: { أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَـٰلِبُونَ } بآياتنا، وأوّل هذه الوجوه أولاها، وفي: { أَنتُمَا وَمَنِ ٱتَّبَعَكُمَا ٱلْغَـٰلِبُونَ } تبشير لهما، وتقوية لقلوبهما. { فَلَمَّا جَاءهُم مُّوسَىٰ بِـئَايَـٰتِنَا بَيّنَـٰتٍ } البينات: الواضحات الدلالة، وقد تقدّم وجه إطلاق الآيات، وهي جمع على العصا، واليد في سورة طه { قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } أي مختلق مكذوب اختلقته من قبل نفسك { وَمَا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا } الذي جئت به من دعوى النبوّة، أو ما سمعنا بهذا السحر { فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ } أي كائناً، أو واقعاً في آبائنا الأوّلين. { وَقَالَ مُوسَىٰ رَبّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِٱلْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ } يريد نفسه، وإنما جاء بهذه العبارة؛ لئلا يصرّح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة، والله أعلم. قرأ الجمهور: { وقال موسىٰ } بالواو، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن: "قال موسىٰ" بلا واو، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة. وقرأ الكوفيون إلا عاصماً: "ومن يكون عاقبة الدار" بالتحتية على أن اسم يكون عاقبة الدار. والتذكير لوقوع الفصل؛ ولأنه تأنيث مجازي، وقرأ الباقون: { تكون } بالفوقية، وهي أوضح من القراءة الأولى، والمراد بالدار هنا: الدنيا، وعاقبتها: هي الدار الآخرة، والمعنى: لمن تكون له العاقبة المحمودة، والضمير في: { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ } للشأن أي: إن الشأن أنه لا يفلح الظالمون أي لا يفوزون بمطلب خير، ويجوز أن يكون المراد بعاقبة الدار خاتمة الخير.
وقال فرعون: { يٰأَيُّهَا ٱلْملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي }: تمسك اللعين بمجرّد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه، وقد كان يعلم أنه ربه الله عزّ وجلّ، ثم رجع إلى تكبره، وتجبره، وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال: { فَأَوْقِدْ لِي يٰهَـٰمَـٰنُ عَلَى ٱلطّينِ } أي: اطبخ لي الطين حتى يصير آجرًّا { فَٱجْعَل لّي صَرْحاً } أي اجعل لي من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجرًّا صرحاً، أي قصراً عالياً { لَّعَلّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ } أي أصعد إليه { وَإِنّى لأظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } والطلوع والإطلاع واحد، يقال: طلع الجبل واطلع { وَٱسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } المراد بالأرض: أرض مصر، والاستكبار: التعظم بغير استحقاق، بل بالعدوان؛ لأنه لم يكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى، ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } أي فرعون، وجنوده، والمراد بالرجوع البعث والمعاد. قرأ نافع، وشيبة وابن محيصن وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي: "لاَ يَرْجِعُونَ" بفتح الياء وكسر الجيم مبنياً للفاعل. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم مبنياً للمفعول، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد.
{ فَأَخَذْنَـٰهُ وَجُنُودَهُ } بعد أن عتوا في الكفر، وجاوزوا الحدّ فيه { فَنَبَذْنَـٰهُمْ فِي ٱلْيَمّ } أي طرحناهم في البحر، وقد تقدّم بيان الكلام في هذا { فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِينَ } الخطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي انظر يا محمد كيف كان آخر أمر الكافرين حين صاروا إلى الهلاك؟ { وَجَعَلْنَـٰهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ } أي صيرناهم رؤساء متبوعين مطاعين في الكافرين، فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون أتباعهم إلى النار؛ لأنهم اقتدوا وسلكوا طريقتهم تقليداً لهم. وقيل: المعنى: إنه يأتمّ بهم أي: يعتبر بهم من جاء بعدهم، ويتعظ بما أصيبوا به، والأول أولى { وَيَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ لاَ يُنصَرُونَ } أي لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من عذاب الله { وَأَتْبَعْنَـٰهُم فِي هَذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً } أي: طرداً وإبعاداً، أو أمرنا العباد بلعنهم، فكل من ذكرهم لعنهم، والأوّل أولى. { وَيَوْمَ القِيَـٰمَةِ هُمْ مّنَ ٱلْمَقْبُوحِينَ } المقبوح: المطرود المبعد. وقال أبو عبيدة وابن كيسان: معناه: من المهلكين الممقوتين. وقال أبو زيد: قبح الله فلاناً قبحاً وقبوحاً أبعده من كل خير. قال أبو عمرو: قبحت وجهه بالتخفيف بمعنى قبحت بالتشديد، ومثله قول الشاعر:
ألا قبح الله البراجم كلها وقبح يربوعاً وقبح دارما
وقيل: المقبوح المشوّه الخلقة، والعامل في يوم محذوف يفسره من المقبوحين، والتقدير: وقبحوا يوم القيامة. أو هو معطوف على موضع في هذه الدنيا، أي وأتبعناهم لعنة يوم القيامة، أو معطوف على لعنة على حذف مضاف، أي ولعنة يوم القيامة. { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ } يعني: التوراة { مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأَولَىٰ } أي: قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم. وقيل: من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون. وانتصاب { بَصَائِرَ للنَّاسِ } على أنه مفعول له أو حال، أي آتيناه الكتاب لأجل يتبصر به الناس، أو حال كونه بصائر للناس يبصرون به الحق ويهتدون إليه وينقذون أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به. { وَرَحْمَةً } لهم من الله رحمهم بها { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } هذه النعم، فيشكرون الله، ويؤمنون به، ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم. وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: { رِدْءاً يُصَدّقُنِي } كي يصدقني. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: لما قال فرعون { يٰأَيُّهَا ٱلْملأَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } قال جبريل: يا ربّ طغى عبدك فائذن لي في هلكه، فقال: يا جبريل هو عبدي، ولن يسبقني، له أجل قد أجلته حتى يجيء ذلك الأجل، فلما قال: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } قال الله: يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي وقد جاء أوان هلاكه. وأخرج ابن مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كلمتان قالهما فرعون: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } وقوله: { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24]" قال: "كان بينهما أربعون عاماً { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ }" [النازعات: 25]. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: بلغني أن فرعون أوّل من طبخ الآجرّ. وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج. وأخرج البزار وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أهلك الله قوماً ولا قرناً ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة، ألم تر إلى قوله: { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا ٱلْقُرُونَ ٱلأُولَىٰ }" . وأخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي سعيد موقوفاً.