خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ
١٤
فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ
١٥
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
١٦
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
١٧
وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٨
أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١٩
قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىءُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ
٢١
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٢٢
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٣
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٢٤
وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٢٥
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٢٦
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ
٢٧
-العنكبوت

فتح القدير

أجمل سبحانه قصة نوح تصديقاً لقوله في أوّل السورة: { وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل له: إن نوحاً لبث ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعو قومه، ولم يؤمن منهم إلاّ قليل، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك. قيل: ووقع في النظم إلاّ خمسين عاماً ولم يقل: تسعمائة سنة وخمسين؛ لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني، فقد يطلق على ما يقرب منه. وقد اختلف في مقدار عمر نوح. وسيأتي آخر البحث. وليس في الآية إلاّ أنه لبث فيهم هذه المدة، وهي لا تدل على أنها جميع عمره. فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم، وقد تلبث في الأرض بعد هلاكهم بالطوفان، والفاء في { فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ } للتعقيب، أي أخذهم عقب تمام المدة المذكورة، والطوفان يقال لكل شيء كثير مطيف بجمع محيط بهم من مطر أو قتل: أو موت قاله النحاس. وقال سعيد بن جبير وقتادة والسدي: هو المطر، وقال الضحاك: الغرق، وقيل: الموت، ومنه قول الشاعر:

أفناهم طوفان موت جارف

وجملة { وَهُمْ ظَـٰلِمُونَ } في محل نصب على الحال، أي مستمرون على الظلم، ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح، وذكرهم هذه المدّة بطولها { فأَنْجَيْنـٰهُ وأَصْحَـٰبَ ٱلسَّفِينَةِ } أي أنجينا نوحاً، وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه. واختلف في عددهم على أقوال: { وَجَعَلْنَـٰهَا } أي السفينة { آيَةً لّلْعَـٰلَمِينَ إِنَّ } أي عبرة عظيمة لهم، وفي كونها آية وجوه: أحدها: أنها كانت باقية على الجوديّ مدة مديدة. وثانيها: أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة. وثالثها: أن الماء غيض قبل نفاذ الزاد. وهذا غير مناسب لوصف السفينة بأن الله جعلها آية. وقيل: إن الضمير راجع في { جعلناها } إلى الواقعة أو إلى النجاة، أو إلى العقوبة بالغرق.

{ وَإِبْرٰهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } انتصاب { إبراهيم } بالعطف على { نوحاً } وقال النسائي: هو معطوف على الهاء في { جعلناها } وقيل: منصوب بمقدّر، أي واذكر إبراهيم. و{ إذ قال } منصوب على الظرفية، أي وأرسلنا إبراهيم وقت قوله لقومه اعبدوا الله، أو جعلنا إبراهيم آية وقت قوله هذا، أو واذكر إبراهيم وقت قوله، على أن الظرف بدل اشتمال من إبراهيم { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ } أي أفردوه بالعبادة وخصوه بها واتقوه أن تشركوا به شيئاً { ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي عبادة الله وتقواه خير لكم من الشرك، ولا خير في الشرك أبداً، ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } شيئاً من العلم، أو تعلمون علماً تميزون به بين ما هو خير، وما هو شرّ. قرأ الجمهور: { وإبراهيم } بالنصب. ووجهه ما قدّمنا. وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة بالرفع على الابتداء والخبر مقدّر، أي ومن المرسلين إبراهيم.

{ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰناً } بيّن لهم إبراهيم أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضرّ ولا يسمع ولا يبصر، والأوثان هي: الأصنام. وقال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن ما يتخذ من جصّ أو حجارة. وقال الجوهري: الوثن الصنم والجمع أوثان { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي وتكذبون كذباً على أن معنى { تخلقون }: تكذبون، ويجوز أن يكون معناه: تعملون وتنحتون، أي تعملونها، وتنحتونها للإفك. قال الحسن: معنى تخلقون: تنحتون أي إنما تعبدون أوثاناً، وأنتم تصنعونها. قرأ الجمهور: { تخلقون } بفتح الفوقية وسكون الخاء وضم اللام مضارع خلق وإفكاً بكسر الهمزة وسكون الفاء. وقرأ عليّ بن أبي طالب وزيد بن عليّ والسلمي وقتادة بفتح الخاء واللام مشدّدة، والأصل تتخلقون. وروي عن زيد بن عليّ أنه قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة. وقرأ ابن الزبير وفضيل بن ورقان: "أَفكا" بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب، أو صفة لمصدر محذوف، أي خلقا أفكا { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئاً من الرزق { فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرّزْقَ } أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فهو الذي عنده الرزق كله، فاسألوه من فضله ووحدوه دون غيره { وَٱشْكُرُواْ لَهُ } أي على نعمائه، فإن الشكر موجب لبقائها وسبب للمزيد عليها، يقال: شكرته وشكرت له { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره.

{ وَإِن تُكَذّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مّن قَبْلِكُمْ } قيل: هذا من قول إبراهيم، أي وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم، وقيل: هو من قول الله سبحانه، أي وإن تكذبوا محمداً، فذلك عادة الكفار مع من سلف { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ } لقومه الذي أرسل إليهم، وليس عليه هدايتهم، وليس ذلك في وسعه { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيء ٱللَّهُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } قرأ الجمهور: { أولم يروا } بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. قال أبو عبيد: كأنه قال: أولم ير الأمم. وقرأ أبو بكر والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقومه. وقيل: هو خطاب من الله لقريش. قرأ الجمهور: { كيف يبدىء } بضم التحتية من أبدأ يبدىء. وقرأ الزبيري وعيسى بن عمر وأبو عمرو بفتحها من بدأ يبدأ. وقرأ الزهري «كيف بدأ» والمعنى: ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، ثم يخرجه إلى الدنيا، ثم يتوفاه بعد ذلك وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات، فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم، والواو للعطف على مقدّر { إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } لأنه إذا أراد أمراً قال له: كن فيكون. ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في الأرض ليتفكروا ويعتبروا، فقال: { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلاْرْضِ فَٱنظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ ٱلْخَلْقَ } على كثرتهم واختلاف ألوانهم وطبائعهم وألسنتهم وانظروا إلى مساكن القرون الماضية والأمم الخالية وآثارهم؛ لتعلموا بذلك كمال قدرة الله. وقيل: إن المعنى: قل لهم يا محمد سيروا، ومعنى قوله: { ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِىء ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } أن الله الذي بدأ النشأة الأولى، وخلقها على تلك الكيفية ينشئها نشأة ثانية عند البعث، والجملة عطف على جملة: { سيروا في الأرض } داخلة معها في حيز القول، وجملة: { إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ } تعليل لما قبلها. قرأ الجمهور: بـ { النشأة } بالقصر، وسكون الشين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمدّ وفتح الشين، وهما لغتان كالرأفة والرآفة. وهي منتصبة على المصدرية بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة { يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء } أي هو سبحانه بعد النشأة الآخرة يعذب من يشاء تعذيبه وهم الكفار والعصاة ويرحم من يشاء رحمته، وهم المؤمنون به المصدّقون لرسله العاملون بأوامره ونواهيه { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي ترجعون وتردّون لا إلى غيره { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَاء } قال الفراء: ولا من في السماء بمعجزين الله فيها. قال: وهو كما في قول حسان:

فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سـواء

أي ومن يمدحه، وينصره سواء. ومثله قوله تعالى: { { وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164] أي: إلاّ من له مقام معلوم. والمعنى: أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه. وقال قطرب: إن معنى الآية: ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان ها هنا، ولا بالبصرة، يعني: ولا بالبصرة لو صار إليها. وقال المبرد: المعنى: ولا من في السماء. على أن "من" ليست موصولة بل نكرة، وفي السماء صفة لها، فأقيمت الصفة مقام الموصوف، وردّ ذلك عليّ بن سليمان وقال: لا يجوز، ورجح ما قاله قطرب { وَمَا لَكُم مّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ } "من" مزيدة للتأكيد، أي ليس لكم وليّ يواليكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذاب الله { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ وَلِقَائِهِ } المراد بالآيات الآيات التنزيلية أو التكوينية أو جميعهما. وكفروا بلقاء الله، أي أنكروا البعث وما بعده ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه. والإشارة بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } إلى الكافرين بالآيات، واللقاء، وهو مبتدأ وخبره: { يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } أي إنهم في الدنيا آيسون من رحمة الله لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله، ولا ما أخبرتهم به رسله. وقيل: المعنى: أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله، وهي: الجنة. والمعنى: أنهم أويسوا من الرحمة { وَأُوْلَـٰئِك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } كرّر سبحانه الإشارة للتأكيد، ووصف العذاب بكونه أليماً للدلالة على أنه في غاية الشدّة.

{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱقْتُلُوهُ أَوْ حَرّقُوهُ } هذا رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدّم من خطاب محمد صلى الله عليه وسلم على قول من قال: إن قوله: { قل سيروا في الأرض } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم. وأما على قول من قال: إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام، فالكلام في سياقه سابقاً ولاحقاً، أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم: افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين، ثم اتفقوا على تحريقه { فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ } وجعلها عليه برداً وسلاماً { إِنَّ فِي ذَلِكَ } أي في إنجاء الله لإبراهيم { لآيَاتٍ } بيّنة، أي دلالات واضحة وعلامات ظاهرة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه، حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها، ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثراً، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق، وإنما خصّ المؤمنون؛ لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه، وأما من عداهم، فهم عن ذلك غافلون. قرأ الجمهور: بنصب { جواب قومه } على أنه خبر كان وما بعده اسمها. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار والحسن برفعه على أنه اسم كان وما بعده في محل نصب على الخبر.

{ وَقَالَ إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَـٰناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } أي قال إبراهيم لقومه، أي للتوادد بينكم، والتواصل لاجتماعكم على عبادتها، وللخشية من ذهاب المودّة فيما بينكم إن تركتم عبادتها. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «مودّة بينكم» برفع مودّة غير منوّنة، وإضافتها إلى بينكم. وقرأ الأعمش وابن وثاب «مودّة» برفعها منوّنة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بنصب "مَّوَدَّةَ" منوّنة ونصب بينكم على الظرفية. وقرأ حمزة وحفص بنصب «مودّة» مضافة إلى بينكم. فأما قراءة الرفع فذكر الزجاج لها وجهين: الأوّل: أنها ارتفعت على خبر إنّ في { إنما اتخذتم } وجعل ما موصولة. والتقدير: إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثاناً مودّة بينكم. والوجه الثاني: أن تكون على إضمار مبتدأ، أي هي مودّة، أو تلك مودّة. والمعنى: أن المودّة هي التي جمعتكم على عبادة الأوثان، واتخاذها. قيل: ويجوز أن تكون مودّة مرتفعة بالابتداء، وخبرها في الحياة الدنيا. ومن قرأ برفع مودّة منوّنة فتوجيهه كالقراءة الأولى، ونصب بينكم على الظرفية. ومن قرأ بنصب مودّة، ولم ينوّنها جعلها مفعول اتخذتم، وجعل إنما حرفاً واحداً للحصر، وهكذا من نصبها ونوّنها. ويجوز أن يكون النصب في هاتين القراءتين على أن المودّة علة فهي مفعول لأجله، وعلى قراءة الرفع يكون مفعول اتخذتم الثاني محذوفاً، أي أوثاناً آلهة، وعلى تقدير أن ما في قوله: { إنما اتخذتم } موصولة يكون المفعول الأوّل ضميرها؛ أي اتخذتموه، والمفعول الثاني أوثاناً { ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر منهم، فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة، وقيل: المعنى: يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان، وتتبرأ الأوثان من العابدين لها { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي يلعن كلّ فريق الآخر على التفسيرين المذكورين { وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ } أي الكفار. وقيل: يدخل في ذلك الأوثان، أي هي منزلكم الذي تأوون إليه { وَمَا لَكُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ } يخلصونكم منها بنصرتهم لكم.

{ فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } أي: آمن لإبراهيم لوط فصدّقه في جميع ما جاء به. وقيل: إنه لم يؤمن به إلاّ حين رأى النار لا تحرقه، وكان لوط ابن أخي إبراهيم { وَقَالَ إِنّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبّي } قال النخعي، وقتادة: الذي قال: { إني مهاجر إلى ربي } هو إبراهيم قال قتادة: هاجر من كوثى، وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران، ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارّة. والمعنى: إني مهاجر عن دار قومي إلى حيث أعبد ربي { إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } أي الغالب الذي أفعاله جارية على مقتضى الحكمة: وقيل: إن القائل: { إني مهاجر إلى ربي } هو لوط، والأوّل أولى لرجوع الضمير في قوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } إلى إبراهيم، وكذا في قوله: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَـٰبَ }، وكذا في قوله: { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف، أي منّ الله عليه بالأولاد، فوهب له إسحاق ولداً له ويعقوب ولداً لولده إسحاق، وجعل في ذرّيته النبوّة والكتاب، فلم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلاّ من صلبه، ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب، والمراد: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومعنى { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا }: أنه أعطي في الدنيا الأولاد، وأخبره الله باستمرار النبوّة فيهم، وذلك مما تقرّ به عينه، ويزداد به سروره، وقيل: أجره في الدنيا أن أهل الملل كلها تدّعيه، وتقول هو منهم. وقيل: أعطاه في الدنيا عملاً صالحاً وعاقبة حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين، أي الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة وكثرة العطاء من الربّ سبحانه.

وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس قال: بعث الله نوحاً، وهو ابن أربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفاً وسبعمائة سنة. وأخرج ابن جرير عن عوف بن أبي شدّاد قال: إن الله أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذمّ الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح فقال: يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتاً له بابان، فقال في وسط البيت هنيهة، ثم خرج من الباب الآخر.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: { وَجَعَلْنَـٰهَا ءَايَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } قال: أبقاها الله آية فهي على الجوديّ. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } قال: تقولون كذباً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: { ٱلنَّشْأَةَ ٱلآخِرَةَ } قال: هي الحياة بعد الموت، وهو النشور. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: { فَـئَامَنَ لَهُ لُوطٌ } قال: صدّق لوط إبراهيم. وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال: أوّل من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صحبهما الله، إن عثمان لأوّل من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط" . وأخرج ابن منده وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: هاجر عثمان إلى الحبشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه أوّل من هاجر بعد إبراهيم ولوط" . وأخرج ابن عساكر والطبراني، والحاكم في الكنى عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط مهاجر" . وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: أوّل من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ وَيَعْقُوبَ } قال: هما ولدا إبراهيم، وفي قوله: { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا } قال: إن الله وصى أهل الأديان بدينه فليس من أهل الأديان دين إلاّ وهم يقولون إبراهيم ويرضون به. وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله: { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا } قال: الذكر الحسن. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: الولد الصالح، والثناء، وقول ابن عباس: هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده، لأن ولد الولد بمنزلة الولد، ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس، فهو حبر الأمة، وهذه الرواية عنه هي من رواية العوفي، وفي الصحيحين "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" .