خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ
٤٧
وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ ٱلْمُبْطِلُونَ
٤٨
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلظَّالِمُونَ
٤٩
وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَاتُ عِندَ ٱللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ
٥٠
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
٥١
قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٥٢
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٥٣
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ
٥٤
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٥٥
-العنكبوت

فتح القدير

قوله: { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والإشارة إلى مصدر الفعل كما بيناه في مواضع كثيرة، أي ومثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا إليك الكتاب، وهو: القرآن، وقيل: المعنى: كما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك القرآن { فَٱلَّذِينَ ءَاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } يعني: مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وخصهم بإيتائهم الكتاب لكونهم العاملين به وكأن غيرهم لم يؤتوه لعدم عملهم بما فيه، وجحدهم لصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكورة فيه { وَمِنْ هَـٰؤُلاۤء مَن يُؤْمِنُ بِهِ } الإشارة إلى أهل مكة، والمراد: أن منهم، وهو من قد أسلم من يؤمن به، أي بالقرآن، وقيل: الإشارة إلى جميع العرب { وَمَا يَجْحَدُ بِـئَايَـٰتِنَا } أي آيات القرآن { إِلاَّ ٱلْكَـٰفِرونَ } المصممون على كفرهم من المشركين، وأهل الكتاب.

{ وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كِتَـٰبٍ } الضمير في قبله راجع إلى القرآن لأنه المراد بقوله: { أنزلنا إليك الكتاب } أي ما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتاباً ولا تقدر على ذلك لأنك أمّي لا تقرأ ولا تكتب { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } أي ولا تكتبه؛ لأنك لا تقدر على الكتابة. قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية. قال النحاس: وذلك دليل على نبوّته؛ لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل كتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم { إِذاً لاَّرْتَـٰبَ ٱلْمُبْطِلُونَ } أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا: لعله وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة أو من الكتب المدوّنة في أخبار الأمم، فلما كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة ولا محل للشك أبداً، بل إنكار من أنكر وكفر من كفر مجرّد عناد وجحود بلا شبهة، وسماهم مبطلين لأن ارتيابهم على تقدير أنه صلى الله عليه وسلم يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته ووضوح معجزاته.

{ بَلْ هُوَ ءايَـٰتٌ بَيّنَـٰتٌ } يعني: القرآن { فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } يعني: المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم، وحفظوه بعده، وقال قتادة ومقاتل: إن الضمير يرجع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، أي بل محمد آيات بينات، أي ذو آيات. وقرأ ابن مسعود: "بل هي آيات بينات" قال الفراء: معنى هذه القراءة: بل آيات القرآن آيات بينات. واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع: "بل هذا آيات بينات" ولا دليل في هذه القراءة على ذلك؛ لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن كما جاز أن تكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج ذلك إلى التأويل، والتقدير: { وَمَا يَجْحَدُ بِـئَايَـٰتِنَا إِلاَّ ٱلظَّـٰلِمُونَ } أي المجاوزون للحدّ في الظلم { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَـٰتٌ مّن رَّبّهِ } أي قال المشركون هذا القول، والمعنى: هلا أنزلت عليه آيات كآيات الأنبياء، وذلك كآيات موسى وناقة صالح وإحياء المسيح للموتى، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال: { قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِ } ينزلها على من يشاء من عباده ولا قدرة لأحد على ذلك { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أنذركم كما أمرت وأبين لكم كما ينبغي، ليس في قدرتي غير ذلك. قرأ ابن كثير وأبو بكر وحمزة والكسائي: "لولا أنزل عليه آية" بالإفراد. وقرأ الباقون بالجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله: { قل إنما الآيات }. { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ } هذه الجملة مستأنفة للردّ على اقتراحهم وبيان بطلانه، أي أو لم يكف المشركين من الآيات التي اقترحوها هذا الكتاب المعجز الذي قد تحدّيتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه، فعجزوا، ولو أتيتهم بآيات موسى وآيات غيره من الأنبياء لما آمنوا، كما لم يؤمنوا بالقرآن الذي يتلى عليهم في كل زمان، ومكان { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الإشارة إلى الكتاب الموصوف بما ذكر { لَرَحْمَةً } عظيمة في الدنيا، والآخرة { وَذِكْرَىٰ } في الدنيا يتذكرون بها، وترشدهم إلى الحق { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لقوم يصدّقون بما جئت به من عند الله، فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي قل للمكذبين كفى الله شهيداً بما وقع بيني وبينكم { يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } لا تخفى عليه من ذلك خافية، ومن جملته ما صدر بينكم وبين رسوله { وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱلْبَـٰطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ } أي آمنوا بما يعبدونه من دون الله وكفروا بالحق وهو الله سبحانه، أولئك هم الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة.

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } استهزاء وتكذيباً منهم بذلك كقولهم: { { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ ٱلسَّمَاء أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال: 32]. { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } قد جعله الله لعذابهم وعينه، وهو القيامة، وقال الضحاك: الأجل: مدّة أعمارهم؛ لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب { لَّجَاءهُمُ ٱلْعَذَابُ } أي لولا ذلك الأجل المضروب لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم. وقيل: المراد بالأجل المسمى: النفخة الأولى. وقيل: الوقت الذي قدّره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر. والحاصل: أن لكل عذاب أجلاً لا يتقدّم عليه ولا يتأخر عنه كما في قوله سبحانه: { { لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } [الأنعام: 67]. وجملة: { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها. ومعنى بغتة: فجأة، وجملة: { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال، أي حال كونهم لا يعلمون بإتيانه. ثم ذكر سبحانه أن موعد عذابهم النار، فقال: { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ } أي يطلبون منك تعجيل عذابهم والحال أن مكان العذاب محيط بهم، أي سيحيط بهم عن قرب، فإن ما هو آت قريب، والمراد بالكافرين: جنسهم، فيدخل فيه هؤلاء المستعجلون دخولاً أوّلياً، فقوله: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } إخبار عنهم، وقوله ثانياً: { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ } تعجب منهم. وقيل: التكرير للتأكيد.

ثم ذكر سبحانه كيفية إحاطة العذاب بهم فقال: { يَوْمَ يَغْشَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي من جميع جهاتهم، فإذا غشيهم العذاب على هذه الصفة، فقد أحاطت بهم جهنم { وَنَقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } القائل هو الله سبحانه، أو بعض ملائكته يأمره، أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي. قرأ أهل المدينة والكوفة: "نقول" بالنون. وقرأ الباقون بالتحتية، واختار القراءة الأخيرة أبو عبيد لقوله: { قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ } وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة: "ويقال ذوقوا".

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، والإسماعيلي في معجمه عن ابن عباس في قوله: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كِتَـٰبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ولا يكتب كان أمياً، وفي قوله: { بَلْ هُوَ ءَايَـٰتٌ بَيّنَـٰتٌ فِي صُدُورِ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } قال: كان الله أنزل شأن محمد في التوراة والإنجيل لأهل العلم وعلمه لهم وجعله لهم آية فقال لهم: إن آية نبوّته أن يخرج حين يخرج ولا يعلم كتاباً ولا يخطه بيمينه، وهي الآيات البينات التي قال الله تعالى. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِن كِتَـٰبٍ } الآية قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ولا يكتب.

وأخرج الفريابي والدارمي، وأبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كفى بقوم حمقاً أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم" فنزلت: { أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ } الآية. وأخرجه الإسماعيلي في معجمه، وابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة، فذكره بمعناه. وأخرج عبد الرزاق في المصنف، والبيهقي في الشعب عن الزهري؛ أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف، فجعلت تقرؤه والنبي صلى الله عليه وسلم يتلوّن وجهه فقال: "والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا نبيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم" . وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد وابن الضريس، والحاكم في الكنى، والبيهقي في الشعب عن عبد الله ابن الحارث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيراً شديداً لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر: أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، فسرّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم أنا حظكم من النبيين وأنتم حظكم من الأمم" . وأخرج نحوه عبد الرزاق والبيهقي من طريق أبي قلابة عن عمر. وأخرج البيهقي وصححه عن عمر بن الخطاب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعلم التوراة فقال: "لا تتعلمها وآمن بها، وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوا به" . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ } قال: جهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه وتكون فيه الشمس والقمر ثم يستوقد فيكون هو جهنم، وفي هذا نكارة شديدة، فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة.