خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
١٦٩
فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
١٧٠
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٧١
ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ٱلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٧٢
ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ
١٧٣
فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوۤءٌ وَٱتَّبَعُواْ رِضْوَانَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
١٧٤
إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
١٧٥
-آل عمران

فتح القدير

لما بين الله - سبحانه - أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحاناً ليتميز المؤمن من المنافق، والكاذب من الصادق، بين ههنا أن من لم ينهزم، وقتل فله هذه الكرامة، والنعمة، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون، لا مما يخاف، ويحذر، كما قالوا من حكى الله عنهم: { { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [آل عمران: 156] وقالوا: { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آل عمران: 168] فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد، وقرىء بالياء التحتية، أي: لا يحسبن حاسب.

وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل: في شهداء أحد، وقيل: في شهداء بدر، وقيل: في شهداء بئر معونة. وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص، فالاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. ومعنى الآية عند الجمهور: أنهم أحياء حياة محققة ثم اختلفوا، فمنهم من يقول: أنها تردّ إليهم أرواحهم في قبورهم، فيتنعمون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة، أي: يجدون ريحها، وليسوا فيها، وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية، والمعنى: أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة، والصحيح الأوّل، ولا موجب للمصير إلى المجاز. وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم في الجنة يرزقون، ويأكلون، ويتمتعون.

وقوله: { ٱلَّذِينَ قَتَلُواْ } هو: المفعول الأوّل. والحاسب هو النبي صلى الله عليه وسلم، أو كل أحد، كما سبق، وقيل: يجوز أن يكون الموصول هو: فاعل الفعل، والمفعول الأوّل محذوف، أي: لا تحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً، وهذا تكلف لا حاجة إليه، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح، والجلاء. وقوله: { بَلْ أَحْيَاء } خبر مبتدأ محذوف، أي: بل هم أحياء. وقرىء بالنصب على تقدير الفعل، أي: بل أحسبهم أحياء. وقوله: { عِندَ رَبّهِمْ } إما خبر ثان، أو صفة لأحياء، أو في محل نصب على الحال، وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: عند كرامة ربهم. قال سيبويه: هذه عندية الكرامة لا عندية القرب. وقوله: { يُرْزَقُونَ } يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله: { عِندَ رَبّهِمْ } والمراد بالرزق هنا: هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور، كما سلف، وعند من عدا الجمهور المراد به: الثناء الجميل، ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى، وحملها على مجازات بعيدة، لا لسبب يقتضي ذلك.

وقوله: { فَرِحِينَ } حال من الضمير في { يرزقون }، و{ بما آتاهم الله من فضله } متعلق به. وقرأ ابن السميفع: «فارحين» وهما: لغتان كالفره والفاره، والحذر والحاذر. والمراد: { بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللَّهُ } ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة، وما صاروا فيه من الحياة، وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه. { وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } من إخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا إذ ذاك. فالمراد باللحوق هنا: أنهم لم يلحقوا بهم في القتل، والشهادة؛ بل سيلحقون بهم من بعد. وقيل المراد: لم يلحقوا بهم في الفضل، وإن كانوا أهل فضل في الجملة، والواو في: { وَيَسْتَبْشِرُونَ } عاطفة على: { يُرْزَقُونَ } أي: يرزقون، ويستبشرون، وقيل المراد: بإخوانهم هنا: جميع المسلمين الشهداء، وغيرهم؛ لأنهم لما عاينوا ثواب الله، وحصل لهم اليقين بحقية دين الإسلام استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين هم أحياء لم يموتوا، وهذا أقوى، لأن معناه أوسع، وفائدته أكثر، واللفظ يحتمله بل هو الظاهر، وبه قال الزجاج، وابن فورك. وقوله: { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل من الذين، أي: يستبشرون بهذه الحالة الحاصلة لإخوانهم من أنه لا خوف عليهم، ولا حزن، و"أن" هي: المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن المحذوف، وكرر قوله: { يَسْتَبْشِرُونَ } لتأكيد الأوّل، ولبيان أن الاستبشار ليس لمجرد عدم الخوف، والحزن، بل به، وبنعمة الله، وفضله. والنعمة: ما ينعم الله به على عباده. والفضل: ما يتفضل به عليهم، وقيل النعمة: الثواب، والفضل الزائد، وقيل: النعمة الجنة، والفضل داخل في النعمة ذكر بعدها لتأكيدها، وقيل: إن الاستبشار الأوّل متعلق بحال إخوانهم، والاستبشار الثاني بحال أنفسهم. قوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } قرأ الكسائي بكسر الهمزة من "أن"، وقرأ الباقون بفتحها فعلى القراءة الأولى هو: مستأنف اعتراض. وفيه دلالة على أن الله لا يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين، ويؤيده قراءة ابن مسعود، "والله لا يضيع أجر المؤمنين". وعلى القراءة الثانية الجملة عطف على فضل داخلة في جملة ما يستبشرون به.

وقوله: { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ } صفة للمؤمنين، أو بدل منهم، أو من الذين لم يلحقوا بهم، أو هو مبتدأ خبره: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَٱتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } بجملته، أو منصوب على المدح، وقد تقدم تفسير القرح.

قوله: { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } المراد بالناس هنا: نعيم بن مسعود، كما سيأتي بيانه، وجاز إطلاق لفظ الناس عليه لكونه من جنسهم. وقيل: المراد بالناس: ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان. وقيل: هم: المنافقون. والمراد بقوله: { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } أبو سفيان، وأصحابه، والضمير في قوله: { فَزَادَهُمُ } راجع إلى القول المدلول عليه، بـ { قال }، أو إلى المقول، وهو: { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ } أو إلى القائل، والمعنى: أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك، ولا التفتوا إليه، بل أخلصوا لله، وازدادوا طمأنينة، ويقيناً. وفيه دليل على أن الإيمان يزيد، وينقص. قوله: { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } حسب مصدر حسبه، أي: كفاه، وهو بمعنى الفاعل، أي: محسب بمعنى كافي. قال في الكشاف: والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول: هذا رجل حسبك، فتصف به النكرة؛ لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية. انتهى. والوكيل هو: من توكل إليه الأمور، أي: نعم الموكول إليه أمرنا، أو الكافي، أو الكافل، والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعم الوكيل الله سبحانه.

قوله: { فَٱنْقَلَبُواْ } هو: معطوف على محذوف، أي: فخرجوا إليهم، فانقلبوا بنعمة هو: متعلق بمحذوف وقع حالاً. والتنوين للتعظيم، أي: رجعوا متلبسين: { بِنِعْمَةٍ } عظيمة، وهي السلامة من عدوهم، وعافية { وَفَضَّلَ } أي: أجر تفضل الله به عليهم؛ وقيل ربح في التجارة. وقيل: النعمة خاصة بمنافع الدنيا، والفضل بمنافع الآخرة، وقد تقدم تفسيرهما قريباً بما يناسب ذلك المقام؛ لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين قد صاروا في الدار الآخرة، والكلام هنا مع الأحياء. قوله: { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } في محل نصب على الحال، أي: سالمين عن سوء لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ما يخافونه { وَٱتَّبَعُواْ رِضْوٰنَ ٱللَّهِ } في ما يأتون، ويذرون، ومن ذلك خروجهم لهذه الغزوة { وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } لا يقادر قدره، ولا يبلغ مداه، ومن تفضله عليهم: تثبيتهم، وخروجهم للقاء عدوهم، وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي هي جالبة لكل خير، ودافعة لكل شرّ.

قوله: { إِنَّمَا ذٰلِكُمُ } أي: المثبط لكم أيها المؤمنون { ٱلشَّيْطَـٰنِ } هو: خبر اسم الإشارة، ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة، والخبر قوله: { يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ }؛ فعلى الأول يكون قوله: { يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } جملة مستأنفة، أو حالية، والظاهر أن المراد هنا: الشيطان نفسه باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط، وقيل المراد به: نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة، وقيل: أبو سفيان لما صدر منه الوعيد لهم؛ والمعنى أن الشيطان يخوف المؤمنين أولياءه، وهم الكافرون، وقيل: إن قوله: { أَوْلِيَاءهُ } منصوب بنزع الخافض أي: يخوفكم بأوليائه، أو من أوليائه، قاله الفراء، والزجاج، وأبو علي الفارسي. ورده ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين، فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر. وعلى قول الفراء، ومن معه يكون مفعول يخوف محذوفاً، أي: يخوفكم. وعلى الأول يكون المفعول الأوّل محذوفاً، والثاني مذكوراً، ويجوز أن يكون المراد: أن الشيطان يخوف أولياءه، وهم القاعدون من المنافقين، فلا حذف. قوله: { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي: أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان، أو فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله: { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } نهاهم سبحانه عن أن يخافوهم، فيجبنوا على اللقاء، ويفشلوا عن الخروج، وأمرهم بأن يخافوه سبحانه، فقال: { وَخَافُونِ } فافعلوا ما آمركم به، واتركوا ما أنهاكم عنه لأني الحقيق بالخوف مني، والمراقبة لأمري، ونهيـي لكون الخير والشرّ بيدي، وقيده بقوله: { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لأن الإيمان يقتضي ذلك.

وقد أخرج الحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } في حمزة، وأصحابه. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد عن أبي الضحى أنها نزلت في قتلى أحد، وحمزة منهم. أخرج عبد بن حميد، وأبو داود، وابن جرير، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا" ، وفي لفظ قالوا: " من يبلغ إخواننا أنَّا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله هؤلاء الآيات: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ.. } الآية وما بعدها" وأخرج الترمذي وحسنه، وابن ماجه، وابن خزيمة، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن جابر بن عبد الله: أن أباه سأل الله سبحانه أن يبلغ من وراءه ما هو فيه، فنزلت هذه الآية، وهو من قتلى أحد. وقد روى من وجوه كثيرة أن سبب نزول الآية قتلى أحد. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أنس؛ أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة، وعلى كل حال، فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد، وقد ثبت في أحاديث كثيرة في الصحيح، وغيره أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر، وثبت في فضل الشهداء ما يطول تعداده، ويكثر إيراده مما هو معروف في كتب الحديث.

وأخرج النسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فندب المسلمين، فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد، أو بئر أبي عتبة، شكّ سفيان، فقال المشركون: يرجع من قابل، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تعدّ غزوة، فأنزل الله سبحانه: { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } الآية. وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ... } الآية، أنها قالت لعروة بن الزبير: يا بن أختي كان أبواك منهم: الزبير، وأبو بكر، لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد انصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا، فقال: "من يرجع في أثرهم؟" فانتدب منهم سبعون فيهم أبو بكر، والزبير.

وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، وقالوا: رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرَّن على بقيتهم، فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في أصحابه يطلبهم، فثنى ذلك أبا سفيان، وأصحابه، ومر ركب من عبد القيس، فقال لهم أبو سفيان: بلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الرجعة على أصحابه؛ لنستأصلهم؛ فلما مرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد أخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسلمون معه: "حسبنا الله،" ونعم الوكيل، فأنزل الله في ذلك: { ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } الآيات. وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن شهاب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدراً. فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس، فمشوا في الناس يخوفونهم، وقالوا: إنا قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون أن يواقعوكم. والروايات في هذا الباب كثيرة قد اشتملت عليها كتب الحديث، والسير. وأخرج ابن المنذر، عن سعيد بن جبير قال: القرح الجراحات.

وأخرج ابن جرير، عن السدي أن أبا سفيان، وأصحابه لقوا أعرابياً، فجعلوا له جعلاً على أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه أنهم قد جمعوا لهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال هو، والصحابة: "حسبنا الله،" ونعم الوكيل، ثم رجعوا من حمراء الأسد، فأنزل الله فيهم، وفي الأعرابي: { ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } الآية. وأخرج ابن مردويه، عن أبي رافع أن هذا الأعرابي من خزاعة.

وقد ورد في فضل هذه الكلمة أعني: { حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ } أحاديث منها ما أخرجه ابن مردويه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله، ونعم الوكيل" قال ابن كثير بعد إخراجه: هذا حديث غريب من هذا الوجه. وأخرج أبو نعيم، عن شداد بن أوس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسبي الله، ونعم الوكيل، أمان كل خائف" . وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر، عن عائشة:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه، ولحيته، ثم تنفس الصعداء، وقال: "حسبي الله، ونعم الوكيل" . وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عباس قال: "حسبنا الله،" ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ }. وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، عن عوف بن مالك أنه حدثهم: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين، فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله، ونعم الوكيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوا عليّ الرجل"، فقال: "ما قلت"؟ قال: قلت: حسبي الله، ونعم الوكيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر، فقل: حسبي الله، ونعم الوكيل" . وأخرج أحمد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنعم، وصاحب القرن قد التقم القرن، وحنى جبهته يسمع متى يؤمر، فينفخ؟ ثم أمر الصحابة أن يقولوا حسبنا الله، ونعم الوكيل على الله توكلنا" وهو حديث جيد.

وأخرج البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس في قوله: { فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍ } قال: النعمة أنهم سلموا، والفضل أن عيراً مرّت، وكان في أيام الموسم، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربح مالاً، فقسمه بين أصحابه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في الآية قال: الفضل ما أصابوا من التجارة، والأجر. وأخرج ابن جرير، عن السدي قال: أما النعمة: فهي العافية، وأما الفضل: فالتجارة، والسوء: القتل. أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله: { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } قال: لم يؤذهم أحد: { وَٱتَّبَعُواْ رِضْوٰنَ ٱللَّهِ } قال: أطاعوا الله، ورسوله.

وأخرج ابن جرير، من طريق العوفي عنه في قوله: { إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } قال: يقول الشيطان يخوّف بأوليائه. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي مالك قال: يعظم أولياءه في أعينكم. وأخرج ابن المنذر، عن عكرمة مثل قول ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن: إنما كان ذلك تخويف الشيطان، ولا يخاف الشيطان إلا وليّ الشيطان.