خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
٤١
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ
٤٢
وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ
٤٣
إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ
٤٤
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٤٥
وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
٤٦
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٤٧
وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَذَا ٱلْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٤٨
مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ
٤٩
فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ
٥٠
وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ
٥١
قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ
٥٢
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٥٣
فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
٥٤
-يس

فتح القدير

ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعاً آخر مما امتنّ به على عباده من النعم، فقال: { وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } أي دلالة وعلامة، وقيل: معنى { آية } هنا: العبرة، وقيل: النعمة، وقيل: النذارة.

وقد اختلف في معنى { أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } وإلى من يرجع الضمير، لأن الضمير الأوّل، وهو قوله: { وَءايَةٌ لَّهُمُ } لأهل مكة، أو لكفار العرب، أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل: الضمير يرجع إلى القرون الماضية، والمعنى: أن الله حمل ذرّيّة القرون الماضية في الفلك المشحون، فالضميران مختلفان. وهذا حكاه النحاس عن عليّ بن سليمان الأخفش. وقيل: الضميران لكفار مكة، ونحوهم. والمعنى: أن الله حمل ذرّيّاتهم من أولادهم، وضعفائهم على الفلك، فامتنّ الله عليهم بذلك: أي: إنهم يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا، أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها. وقيل: الذرّيّة: الآباء والأجداد، والفلك هو: سفينة نوح، أي: إن الله حمل آباء هؤلاء، وأجدادهم في سفينة نوح. قال الواحدي: والذرّيّة تقع على الآباء كما تقع على الأولاد. قال أبو عثمان: وسمي الآباء ذرية، لأن منهم ذرء الأبناء، وقيل: الذرّية النطف الكائنة في بطون النساء، وشبه البطون بالفلك المشحون، والراجح: القول الثاني، ثم الأوّل، ثم الثالث، وأما الرابع ففي غاية البعد، والنكارة. وقد تقدّم الكلام في الذرية، واشتقاقها في سورة البقرة مستوفي، والمشحون: المملوء الموقر، والفلك يطلق على الواحد والجمع كما تقدّم في يونس، وارتفاع آية على أنها خبر مقدّم، والمبتدأ { أنا حملنا }، أو العكس على ما قدّمنا. وقيل: إن الضمير في قوله: { وَءايَةٌ لَّهُمُ } يرجع إلى العباد المذكورين في قوله: { { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ } [يسۤ: 30]؛ لأنه قال بعد ذلك: { { وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ } [يسۤ: 33]، وقال: { { وَءايَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيْلُ } [يسۤ: 37]. ثم قال: { وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ }، فكأنه قال: وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد، ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين: البعض منهم، وبالضمير: الآخر البعض الآخر، وهذا قول حسن.

{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } أي: وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن ما هي: الموصولة. قال مجاهد، وقتادة، وجماعة من أهل التفسير: وهي: الإبل خلقها لهم للركوب في البرّ مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تسمي الإبل سفائن البرّ، وقيل: المعنى: وخلقنا لهم سفناً أمثال تلك السفن يركبونها، قاله الحسن، والضحاك، وأبو مالك. قال النحاس: وهذا أصحّ؛ لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس، وقيل: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } هذا من تمام الآية التي امتنّ الله بها عليهم، ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك، والضمير يرجع إما إلى أصحاب الذرية، أو إلى الذرية، أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال، والصريخ بمعنى: المصرخ، والمصرخ هو: المغيث: أي: فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا إغراقهم، وقيل: هو المنعة. ومعنى { ينقذون }: يخلصون، يقال: أنقذه، واستنقذه، إذا خلصه من مكروه { إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا } استثناء مفرّغ من أعمّ العلل: أي: لا صريخ لهم، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلاّ لرحمة منا، كذا قال الكسائي، والزجاج، وغيرهما، وقيل: هو استثناء منقطع: أي: لكن لرحمة منا. وقيل هو منصوب على المصدرية بفعل مقدّر { و } انتصاب { مَّتَـٰعًا } على العطف على رحمة: أي: نمتعهم بالحياة الدنيا { إِلَىٰ حِينٍ } وهو: الموت، قاله قتادة. وقال يحيـى بن سلام: إلى القيامة.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } أي: ما بين أيديكم من الآفات، والنوازل، فإنها محيطة بكم، وما خلفكم منها. قال قتادة: معنى { ٱتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } أي: من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم { وَمَا خَلْفَكُمْ } في الآخرة. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد: { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } ما مضى من الذنوب { وَمَا خَلْفَكُمْ } ما بقي منها. وقيل: { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ }: الدنيا { وَمَا خَلْفَكُمْ }: الآخرة، قاله سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. وقيل: { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } ما ظهر لكم { وَمَا خَلْفَكُمْ } ما خفي عنكم، وجواب إذا محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا كما يدلّ عليه { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي: رجاء أن ترحموا، أو كي ترحموا، أو راجين أن ترحموا { وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَـٰتِ رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } "ما" هي النافية، وصيغة المضارع للدلالة على التجدّد، ومن الأولى مزيدة للتوكيد، والثانية للتبعيض: والمعنى: ما تأتيهم من آية دالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال إلاّ كانوا عنها معرضين. وظاهره يشمل الآيات التنزيلية، والآيات التكوينية، وجملة { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } في محلّ نصب على الحال كما مرّ تقريره في غير موضع. والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها، وترك النظر الصحيح فيها، وهذه الآية متعلقة بقوله: { يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي: إذا جاءتهم الرسل كذّبوا. وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها.

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ ٱلله } أي: تصدّقوا على الفقراء مما أعطاكم الله، وأنعم به عليكم من الأموال، قال الحسن: يعني: اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقال مقاتل: إن المؤمنين قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه: { { وَجَعَلُواْ للهِ ٱللَّهُ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَامِ نَصِيباً } [الأنعام: 136]، فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله: { قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } استهزاءً بهم، وتهكماً بقولهم: { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } أي: من لو يشاء الله رزقه، وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون: إن الرّزّاق هو: الله، وأنه يغني من يشاء، ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين، وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله، فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا غلط منهم، ومكابرة، ومجادلة بالباطل، فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه، وأفقر بعضاً، وأمر الغنيّ أن يطعم الفقير، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة. وقولهم: { مَن لَّوْ يَشَاء ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } هو وإن كان كلاماً صحيحاً في نفسه، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله، أو إنكار جواز الأمر بالانفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلاً. وقوله: { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } من تمام كلام الكفار. والمعنى: إنكم أيها المسلمون في سؤال المال، وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور. وقيل: هو من كلام الله سبحانه جواباً على هذه المقالة التي قالها الكفار. وقال القشيري، والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة. وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب، قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين، ومناقضة لهم. وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس.

{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ } الذي تعدونا به من العذاب، والقيامة، والمصير إلى الجنة أو النار. { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ } فيما تقولون، وتعدونا به. قالوا ذلك استهزاء منهم، وسخرية بالمؤمنين. ومقصودهم إنكار ذلك بالمرّة، ونفي تحققه، وجحد وقوعه، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله: { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً } أي: ما ينتظرون إلاّ صيحة واحدة، وهي: نفخة إسرافيل في الصور { تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ } أي: يختصمون في ذات بينهم في البيع، والشراء، ونحوهما من أمور الدنيا، وهذه هي النفخة الأولى، وهي: نفخة الصعق. وقد اختلف القراء في { يخصّمون }، فقرأ حمزة بسكون الخاء، وتخفيف الصاد من خصم يخصم، والمعنى: يخصم بعضهم بعضاً، فالمفعول محذوف. وقرأ أبو عمرو، وقالون بإخفاء فتحة الخاء، وتشديد الصاد. وقرأ نافع، وابن كثير، وهشام كذلك إلا أنهم أخلصوا فتحة الخاء، وقرأ الباقون بكسر الخاء، وتشديد الصاد. والأصل في القراءات الثلاث يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد، فنافع، وابن كثير، وهشام نقلوا فتحة التاء إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً، وأبو عمرو، وقالون اختلسا حركتها تنبيهاً على أن الخاء أصلها السكون، والباقون حذفوا حركتها، فالتقى ساكنان، فكسروا أوّلهما. وروي عن أبي عمرو، وقالون: أنهما قرءا بتسكين الخاء، وتشديد الصاد، وهي قراءة مشكلة لاجتماع ساكنين فيها. وقرأ أبيّ "يختصمون" على ما هو الأصل.

{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي: لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له، وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة، والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم، ومواضعهم { وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } أي: إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها. وقيل: المعنى: لا يرجعون إلى أهلهم قولاً، وهذا إخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى. ثم أخبر سبحانه عما ينزل بهم عند النفخة الثانية، فقال: { وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ } وهي: النفخة التي يبعثون بها من قبورهم، ولهذا قال: { فَإِذَا هُم مّنَ ٱلأَجْدَاثِ } أي: القبور { إِلَىٰ رَبّهِمْ يَنسِلُونَ } أي: يسرعون، وبين النفختين أربعون سنة. وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال: { ونفخ } تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان، وجعلوا هذه الآية مثالاً له، والصور بإسكان الواو: هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، كما وردت بذلك السنة، وإطلاق هذا الاسم على القرن معروف في لغة العرب، ومنه قول الشاعر:

نحن نطحناهم غداة الغورين نطحاً شديداً لا كنطح الصورين

أي: القرنين. وقد مضى هذا مستوفى في سورة الأنعام. وقال قتادة: الصور جمع صورة، أي: نفخ في الصور الأرواح، والأجداث جمع جدث، وهو: القبر. وقرىء «الأجداف» بالفاء، وهي لغة، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة، والنسل، والنسلان: الإسراع في السير، يقال: نسل ينسل كضرب يضرب، ويقال: ينسل بالضم، ومنه قول امرىء القيس:

فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

وقول الآخر:

عسلان الذيب أمسى قارنا برد الليل عليه فنسل

{ قَالُواْ يٰوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } أي: قالوا عند بعثهم من القبور بالنفخة: يا ويلنا: نادوا ويلهم، كأنهم قالوا له احضر، فهذا أوان حضورك، وهؤلاء القائلون هم: الكفار. قال ابن الأنباري: الوقف على { يا ويلنا } وقف حسن. ثم يبتدىء الكلام بقوله: { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياماً. قرأ الجمهور { يا ويلنا }، وقرأ ابن أبي ليلى "يا ويلتنا" بزيادة التاء. وقرأ الجمهور { من بعثنا } بفتح ميم "من" على الاستفهام. وقرأ ابن عباس، والضحاك، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جرّ، ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب. وعلى هذه القراءة تكون "من" متعلقة بالويل، وقرأ الجمهور { من بعثنا }. وفي قراءة أبيّ "من أهبنا" من هبّ نومه: إذا انتبه، وأنشد ثعلب على هذه القراءة:

وعاذلة هبت بليل تلومني ولم يعتمدني قبل ذاك عذول

وقيل: إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم. وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور، وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية، وجملة { هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ وَصَدَقَ ٱلْمُرْسَلُونَ } جواب عليهم من جهة الملائكة، أومن جهة المؤمنين. وقيل: هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأوّل الفراء، وبالثاني مجاهد. وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه، و «ما» في قوله: { مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ } موصولة، وعائدها محذوف والمعنى: هذا الذي وعده الرحمن، وصدق فيه المرسلون قد حق عليكم، ونزل بكم، ومفعولا الوعد والصدق محذوفان أي: وعدكموه الرحمٰن، وصدقكموه المرسلون، والأصل وعدكم به، وصدقكم فيه، أو وعدناه الرحمٰن، وصدقناه المرسلون على أن هذا من قول المؤمنين، أو من قول الكفار { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وٰحِدَةً } أي: ما كانت تلك النفخة المذكورة إلاّ صيحة واحدة صاحها إسرافيل بنفخه في الصور { فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي: فإذا هم مجموعون محضرون لدينا بسرعة للحساب، والعقاب { فَٱلْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ } من النفوس { شَيْئاً } مما تستحقه أي: لا ينقص من ثواب عملها شيئاً من النقص، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: إلاّ جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا، أو إلاّ بما كنتم تعملونه أي: بسببه، أو في مقابلته.

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: { أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية قال: في سفينة نوح حمل فيها من كلّ زوجين اثنين { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } قال: السفن التي في البحر والأنهار التي يركب الناس فيها. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي صالح نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } قال: هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يعني: الإبل خلقها الله كما رأيت، فهي: سفن البرّ يحملون عليها، ويركبونها. ومثله عن الحسن، وعكرمة، وعبد الله بن شدّاد، ومجاهد.

وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله: { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } الآية قال: تقوم الساعة، والناس في أسواقهم يتبايعون، ويذرعون الثياب، ويحلبون اللقاح، وفي حوائجهم، { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ }، وأخرج عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن المنذر عن الزبير بن العوّام قال: إن الساعة تقوم، والرجل يذرع الثوب، والرجل يحلب الناقة، ثم قرأ { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } الآية. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتقومنّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة، وقد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها" . وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب في قوله: { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } قال: ينامون قبل البعث نومة.