ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة، وإنعامه على عبيده، وجحد الكفار لنعمه، فقال: { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـٰماً } والهمزة للإنكار، والتعجيب من حالهم، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره، والرؤية هي القلبية أي: أو لم يعلموا بالتفكر، والاعتبار { أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم } أي: لأجلهم { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } أي: مما أبدعناه، وعملناه من غير واسطة، ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص، والتفرّد بالخلق كما يقول الواحد منا: عملته بيدي للدلالة على تفرّده بعمله، "وما" بمعنى: الذي، وحذف العائد لطول الصلة، ويجوز أن تكون مصدرية، والأنعام جمع نعم، وهي: البقر، والغنم، والإبل، وقد سبق تحقيق الكلام فيها. ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام، فقال: { فَهُمْ لَهَا مَـٰلِكُونَ } أي: ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاءوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم، ولم يقدروا على ضبطها، ويجوز أن يكون المراد: أنها صارت في أملاكهم، ومعدودة من جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك.
{ وَذَلَّلْنَـٰهَا لَهُمْ } أي: جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح، ويقودها الصبيّ، فتنقاد له، ويزجرها، فتنزجر، والفاء في قوله: { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } لتفريع أحكام التذليل عليه أي: فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال: ناقة حلوب أي: محلوبة. قرأ الجمهور { ركوبهم } بفتح الراء. وقرأ الأعمش، والحسن، وابن السميفع بضم الراء على المصدر. وقرأ أبيّ، وعائشة "ركوبتهم"، والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة. وقال أبو عبيدة: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز، فمنها ركوبهم بضم الراء؛ لأنه مصدر، والركوب ما يركب، وأجاز ذلك الفراء كما يقال: فمنها أكلهم، ومنها شربهم، ومعنى { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }: ما يأكلونه من لحمها، و"من" للتبعيض { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي: لهم في الأنعام منافع غير الركوب لها، والأكل منها، وهي ما ينتفعون به من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وما يتخذونه من الأدهان من شحومها، وكذلك الحمل عليها، والحراثة بها { وَمَشَـٰرِبُ } أي: ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } الله على هذه النعم، ويوحدونه، ويخصونه بالعبادة.
ثم ذكر سبحانه جهلهم، واغترارهم، ووضعهم كفران النعم مكان شكرها، فقال: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءالِهَةً } من الأصنام، ونحوها يعبدونها، ولا قدرة لها على شيء، ولم يحصل لهم منها فائدة، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة { لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } أي: رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب، أو دهمهم أمر من الأمور، وجملة { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها، وأملوه من نفعها، وجمعهم بالواو، والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون، ويضرون، ويعقلون { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } أي: والكفار جند للأصنام محضرون أي: يحضرونهم في الدنيا. قال الحسن: يمنعون منهم، ويدفعون عنهم، وقال قتادة: أي: يغضبون لهم في الدنيا. قال الزجاج: ينتصرون للأصنام، وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل: المعنى يعبدون الآلهة، ويقومون بها، فهم لهم بمنزلة الجند، هذه الأقوال على جعل ضمير "هم" للمشركين، وضمير "لهم" للآلهة، وقيل: { وهم } أي: الآلهة لهم أي: للمشركين { جند محضرون } معهم في النار، فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم، ويتبرءون منهم. وقيل: المعنى: إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم.
ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } هذا القول هو ما يفيده قوله: { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ ءالِهَةً } فإنهم لا بدّ أن يقولوا: هؤلاء آلهتنا، وإنها شركاء لله في المعبودية، ونحو ذلك. وهو نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن التأثر بذلك. وقيل: إنه نهي لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن التأثر لما يصدر منهم هو من باب: «لا أرينك ها هنا» فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه، لا نهي نفسه عن الرؤية، وهذا بعيد، والأوّل أولى، والكلام من باب التسلية كما ذكرنا، ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو: قولهم إنه ساحر، وشاعر، ومجنون. وجملة { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } لتعليل ما تقدّم من النهي، فإن علمه سبحانه بما يظهرون، ويضمرون مستلزم المجازاة لهم بذلك. وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافياً، أو بادياً سرًّا، أو جهراً مظهراً، أو مضمراً. وتقديم السرّ على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات.
وجملة { أَوَ لَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ } مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث، وللتعجيب من جهله، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام، وردّها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به: جنس الإنسان كما في قوله:
{ { أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [مريم: 67]، ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل: إنه عبد الله بن أبيّ، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو: أمية بن خلف. وقال سعيد بن جبير: هو: العاص بن وائل السهمي. وقال قتادة، ومجاهد: هو: أبيّ بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء، وإن كان سبباً للنزول، فمعنى الآية: خطاب الإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سبباً للنزول تحت جنس الإنسان دخولاً أوّلياً، والنطفة هي: اليسير من الماء، وقد تقدّم تحقيق معناها { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، و"إذا" هي: الفجائية أي: ألم يرَ الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله، وبراهينه، والخصيم: الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين: المظهر لما يقوله الموضح له بقوّة عارضته، وطلاقة لسانه، وهكذا جملة: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ } معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان، وبيان جهله بالحقائق، وإهماله في نفسه فضلاً عن التفكر في سائر مخلوقات الله، ويجوز أن تكون جملة { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } معطوفة على خلقنا، وهذه معطوفة عليها أي: أورد في شأننا قصة غريبة كالمثل: وهي إنكاره أحياناً للعظام، ونسي خلقه، أي: خلقنا إياه، وهذه الجملة معطوفة على ضرب، أو في محلّ نصب على الحال بتقدير قد. وجملة { قَالَ مَن يُحييِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ } استئناف جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل: ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل: قال: من يحيي العظام، وهي رميم، وهذا الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر، يقال: رمّ العظم يرمّ رماً إذا بلي، فهو رميم، ورمام، وإنما قال: { رميم }، ولم يقل: "رميمة" مع كونه خبراً للمؤنث؛ لأنه اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات. وقيل: لكونه معدولاً عن فاعلة، وكل معدول عن وجهه يكون مصروفاً عن إعرابه كما في قوله:
{ { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [مريم: 28]؛ لأنه مصروف عن باغية، كذا قال البغوي، والقرطبي، وقال بالأوّل صاحب الكشاف. والأولى أن يقال: إنه فعيل بمعنى: فاعل، أو مفعول، وهو يستوي فيه المذكر، والمؤنث كما قيل في جريح، وصبور. ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل، فقال: { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي: ابتدأها، وخلقها أوّل مرة من غير شيء، ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } لا يخفى عليه خافية، ولا يخرج عن علمه خارج كائناً ما كان. وقد استدلّ أبو حنيفة، وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة. وقال الشافعي: لا تحله الحياة، وأن المراد بقوله: { مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ } من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف، وردّ بأن هذا التقدير خلاف الظاهر { ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُم مّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ نَاراً } هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدّم من دفع استبعادهم، فنبه سبحانه على وحدانيته، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود النديّ الرطب، وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ، والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان، وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار، وهما أخضران. وقيل: المرخ هو: الذكر، والعفار هو: الأنثى، ويسمى الأوّل الزند، والثاني الزندة، وقال: { الأخضر }، ولم يقل: "الخضراء" اعتباراً باللفظ. وقرىء "الخضر" اعتباراً بالمعنى، وقد تقرّر أنه يجوز تذكير اسم الجنس، وتأنيثه كما في قوله:
{ { نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر: 20] وقوله: { { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [الحاقة: 7] فبنو تميم، ونجد يذكَّرونه، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادراً، والموصول بدل من الموصول الأوّل { فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ } أي: تقدحون منه النار، وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر. ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم خلقاً من الإنسان، فقال: { أَوَ لَيْسَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر كنظائره، ومعنى الآية: أن من قدر على خلق السماوات، والأرض - وهما في غاية العظم، وكبر الأجزاء - يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوّة، كما قال سبحانه:
{ { لَخَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [غافر: 57] قرأ الجمهور { بقادر } بصيغة اسم الفاعل. وقرأ الجحدري، وابن أبي إسحاق، والأعرج، وسلام بن المنذر، وأبو يعقوب الحضرمي "يقدر" بصيغة الفعل المضارع. ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريريّ بقوله: { بَلَىٰ وَهُوَ ٱلْخَلَّـٰقُ ٱلْعَلِيمُ } أي: بلى هو قادر على ذلك، وهو المبالغ في الخلق، والعلم على أكمل وجه، وأتمه. وقرأ الحسن، والجحدري، ومالك بن دينار "وهو الخالق". ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته، وتيسر المبدأ، والإعادة عليه، فقال: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي: إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له: احدث، فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النحل، وفي البقرة. قرأ الجمهور { فيكون } بالرفع على الاستئناف. وقرأ الكسائي بالنصب عطفاً على { يقول }. ثم نزّه سبحانه نفسه عن أن يوصف بغير القدرة، فقال: { فَسُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء }، والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت، والرحموت كأنه قال: فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية. قال قتادة: ملكوت كلّ شيء: مفاتح كلّ شيء. قرأ الجمهور { ملكوت } وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وإبراهيم التيمي "ملكة" بزنة شجرة، وقرىء "مملكة" بزنة مفعلة، وقرىء "ملك"، والملكوت أبلغ من الجميع. وقرأ الجمهور { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالفوقية على الخطاب مبنياً للمفعول. وقرأ السلمي، وزر بن حبيش، وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة مبنياً للمفعول أيضاً. وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل أي: ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد البعث.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في معجمه، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففته بيده، فقال: يا محمد أيحيـي الله هذا بعد ما أرم؟ قال:
"نعم يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم" . فنزلت الآيات من آخر يۤس { أَوَ لَمْ يَرَ ٱلإِنسَـٰنُ أَنَّا خَلَقْنَـٰهُ مِن نُّطْفَةٍ } إلى آخر السورة. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عنه قال: جاء عبد الله بن أبيّ في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر مثل ما تقدّم قال ابن كثير: وهذا منكر؛ لأن السورة مكية، وعبد الله بن أبيّ إنما كان بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: جاء أبيّ بن خلف الجمحي، وذكر نحو ما تقدّم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: نزلت في أبي جهل، وذكر نحو ما تقدّم.