خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ
٣٤
قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ
٣٥
فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ
٣٦
وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ
٣٧
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ
٣٨
هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٩
وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ
٤٠

فتح القدير

قوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـٰنَ } أي: ابتليناه، واختبرناه. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: تزوّج سليمان امرأة من بنات الملوك، فعبدت الصنم في داره، ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته عن ذلك. وقيل: إن سبب الفتنة: أنه تزوّج سليمان امرأة يقال لها: جرادة، وكان يحبها حباً شديداً، فاختصم إليه فريقان: أحدهما: من أهل جرادة، فأحبّ أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم بالحق. وقيل: إن السبب: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد. وقيل: إنه تزوّج جرادة هذه، وهي مشركة؛ لأنه عرض عليها الإسلام، فقالت: اقتلني، ولا أسلم. وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه. وقال الحسن: إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره. وقيل: إنه أمر أن لا يتزوّج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوّج امرأة من غيرهم. وقيل: إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح: أنه قال: لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة تأتي كلّ واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله. وقيل غير ذلك. ثم بيّن سبحانه ما عاقبه به، فقال: { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيّهِ جَسَداً } انتصاب { جسداً } على أنه مفعول { ألقينا }، وقيل: انتصابه على الحال على تأويله بالمشتق، أي: ضعيفاً، أو فارغاً، والأوّل أولى. قال أكثر المفسرين: هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسيّ سليمان هو شيطان اسمه: صخر، وكان متمّرداً عليه غير داخل في طاعته، ألقى الله شبه سليمان عليه، وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان، وذلك عند دخول سليمان الكنيف؛ لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف، فجاء صخر في صورة سليمان، فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان، فقعد على سرير سليمان، وأقام أربعين يوماً على ملكه، وسليمان هارب. وقال مجاهد: إن شيطاناً قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، فذهب ملكه، وقعد الشيطان على كرسيه، ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهنّ، وكان سليمان يستطعم، فيقول: أتعرفونني أطعموني؟ فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً، فشقّ بطنه، فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه ملكه، وهو معنى قوله: { ثُمَّ أَنَابَ } أي: رجع إلى ملكه بعد أربعين يوماً. وقيل: معنى أناب: رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، وهذا هو الصواب، وتكون جملة: { قَالَ رَبّ ٱغْفِرْ لِى } بدلاً من جملة أناب، وتفسيراً له، أي: اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله. ثم لما قدّم التوبة، والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة طلبته، فقال: { وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى } قال أبو عبيدة: معنى لا ينبغي لأحد من بعده: لا يكون لأحد من بعدي. وقيل: المعنى: لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته، وليس هذا من سؤال نبيّ الله سليمان عليه السلام للدنيا، وملكها، والشرف بين أهلها، بل المراد بسؤاله الملك: أن يتمكن به من إنفاذ أحكام الله سبحانه، والأخذ على يد المتمرّدين من عباده من الجنّ، والإنس، ولو لم يكن من المقتضيات لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله، وجملة: { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، أي: فإنك كثير الهبات عظيم الموهوبات. ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته، وإعطاءه لمسألته، فقال: { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرّيحَ } أي: ذللناها له، وجعلناها منقادة لأمره. ثم بيّن كيفية التسخير لها بقوله: { تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء } أي: لينة الهبوب ليست بالعاصف، مأخوذ من الرخاوة، والمعنى: أنها ريح لينة لا تزعزع، ولا تعصف مع قوة هبوبها، وسرعة جريها، ولا ينافي هذا قوله في آية أخرى { { وَلِسُلَيْمَـٰنَ ٱلرّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ } [الأنبياء: 81] لأن المراد: أنها في قوة العاصفة، ولا تعصف. وقيل: إنها كانت تارة رخاء، وتارة عاصفة على ما يريده سليمان، ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين { حَيْثُ أَصَابَ } أي: حيث أراد. قال الزجاج: إجماع أهل اللغة والمفسرين أن معنى { حيث أصاب }: حيث أراد، وحقيقته حيث قعد. وقال الأصمعي، وابن الأعرابي: العرب تقول: أصاب الصواب، وأخطأ الجواب. وقيل: إن معنى أصاب بلغة حمير: أراد، وليس من لغة العرب، وقيل: هو بلسان هجر، والأول أولى، وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض { وَٱلشَّيَـٰطِينَ } معطوف على الريح، أي: وسخرنا له الشياطين، وقوله: { كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ } بدل من الشياطين، أي: كل بناء منهم، وغواص منهم يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر، فيستخرجون له الدر منه، ومن هذا قول الشاعر:

إلا سليمان إذ قال الجليل له قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد

{ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ٱلأَصْفَادِ } معطوف على كل داخل في حكم البدل، وهم مردة الشياطين سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد. يقال: قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد: الأغلال واحدها صفد. قال الزجاج: هي السلاسل، فكل ما شددته شداً وثيقاً بالحديد، وغيره، فقد صفدته. قال أبو عبيدة: صفدت الرجل، فهو: مصفود، وصفدته، فهو: مصفد، ومن هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته:

فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا

قال يحيـى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم، ولم يسخرهم، والإشارة بقوله: { هذا } إلى ما تقدم من تسخير الريح، والشياطين له، وهو بتقدير القول، أي: وقلنا له: { هَـٰذَا عَطَاؤُنَا } الذي أعطيناكه من الملك العظيم الذي طلبته { فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ } قال الحسن، والضحاك، وغيرهما: أي فأعط من شئت، وامنع من شئت { بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا حساب عليك في ذلك الإعطاء، أو الإمساك، أو عطاؤنا لك بغير حساب لكثرته، وعظمته. وقال قتادة: إن قوله: { هَـٰذَا عَطَاؤُنَا } إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع، وهذ لا وجه لقصر الآية عليه لو قدّرنا أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات، فكيف يدعي اختصاص الآية به مع عدم ذكره؟ { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } أي: قربة في الآخرة { وَحُسْنُ مَـئَابٍ }، وحسن مرجع، وهو: الجنة.

وقد أخرج الفريابي، والحكيم الترمذي، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـٰنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال: هو الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوماً، وكان لسليمان امرأة يقال لها: جرادة، وكان بين بعض أهلها، وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها، فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء، فكان لا يدري أيأتيه من السماء أم من الأرض؟ وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، قال السيوطي بسند قوي: عن ابن عباس قال: أراد سليمان أن يدخل الخلاء، فأعطى لجرادة خاتمه، وكانت جرادة امرأته، وكانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فأعطته، فلما لبسه دانت له الإنس، والجن، والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال: هاتي خاتمي، قالت: قد أعطيته سليمان. قال: أنا سليمان، قالت: كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحداً يقول: أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله، وقام الشيطان يحكم بين الناس، فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، فأرسلوا إلى نساء سليمان، فقالوا لهن: تنكرن من أمر سليمان شيئاً؟ قلن: نعم إنه يأتينا، ونحن نحيض، وما كان يأتينا قبل ذلك، فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتباً فيها سحر، وكفر، فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها، وقرءوها على الناس، وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس، ويغلبهم، فأكفر الناس سليمان، فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم، فطرحه في البحر فتلقته سمكة، فأخذته، وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل، فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فدعا سليمان، فقال: تحمل لي هذا السمك؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بسمكة من هذا السمك، فحمل سليمان السمك، ثم انطلق به إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان، فشق بطنها، فإذا الخاتم في جوفها، فأخذه، فلبسه، فلما لبسه دانت له الجنّ، والإنس، والشياطين، وعاد إلى حاله، وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر، فأرسل سليمان في طلبه، وكان شيطاناً مريداً، فجعلوا يطلبونه، ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً، فجاءوا، فبنوا عليه بنياناً من رصاص، فاستيقظ، فوثب، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه الرصاص، فأخذوه، فأوثقوه، وجاءوا به إلى سليمان، فأمر به، فنقر له تخت من رخام، ثم أدخله في جوفه، ثم شدّ بالنحاس، ثم أمر به، فطرح في البحر، فذلك قوله: { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَـٰنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيّهِ جَسَداً } يعني: الشيطان الذي كان سلط عليه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيّهِ جَسَداً } قال: صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته. وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ عفريتاً من الجنّ جعل يتفلت عليّ البارحة؛ ليقطع عليّ صلاتي، وإن الله أمكنني منه، فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا، فتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: { وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى } فردّه الله خاسئاً" . وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { فَٱمْنُنْ } يقول: اعتق من الجنّ من شئت، وأمسك منهم من شئت.