خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنِّيۤ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٣
قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي
١٤
فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ
١٥
لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ
١٦
وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ
١٧
ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
١٨
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي ٱلنَّارِ
١٩
لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَعْدَ ٱللَّهِ لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ
٢٠
-الزمر

فتح القدير

قوله: { قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } أي: بترك إخلاص العبادة له، وتوحيده، والدعاء إلى ترك الشرك، وتضليل أهله { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }، وهو: يوم القيامة. قال أكثر المفسرين: المعنى: إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله. قال أبو حمزة اليماني، وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله: { { لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [الفتح: 2] وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب، لأن قبله: { { إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ } [الزمر: 11]، فالمراد: عصيان هذا الأمر { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ } التقديم مشعر بالاختصاص، أي: لا أعبد غيره لا استقلالاً، ولا على جهة الشركة، ومعنى { مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى }: أنه خالص لله غير مشوب بشرك، ولا رياء، ولا غيرهما، وقد تقدّم تحقيقه في أول السورة. قال الرازي: فإن قيل: ما معنى التكرير في قوله: { { قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ ٱلدّينَ } [الزمر: 11]، وقوله: { قُلِ ٱللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى } قلنا: ليس هذا بتكرير، لأن الأوّل: إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان، والعبادة، والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحداً غير الله { فَٱعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ } أن تعبدوه { مِن دُونِهِ } هذا الأمر للتهديد، والتقريع، والتوبيخ كقوله: { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [فصلت: 40]، وقيل: إن الأمر على حقيقته، وهو منسوخ بآية السيف، والأوّل أولى { قُلْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } أي: إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء، لأن من دخل النار، فقد خسر نفسه، وأهله. قال الزجاج: وهذا يعني به الكفار، فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا أهليهم، لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، وجملة: { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } مستأنفة لتأكيد ما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران الذي حلّ بهم قد بلغ من العظم إلى غاية ليس فوقها غاية، وكذلك تعريف الخسران، ووصفه بكونه مبيناً، فإنه يدلّ على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران؛ وأنه لا خسران يساويه، ولا عقوبة تدانيه.

ثم بيّن سبحانه هذا الخسران الذي حلّ بهم، والبلاء النازل عليهم بقوله: { لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ٱلنَّارِ } الظلل عبارة عن أطباق النار، أي: لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم { وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } أي: أطباق من النار، وسمي ما تحتهم ظللاً؛ لأنها تظلّ من تحتها من أهل النار، لأن طبقات النار صار في كلّ طبقة منها طائفة من طوائف الكفار، ومثل هذه الآية قوله: { { لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [الأعراف: 41]، وقوله: { { يَوْمَ يَغْشَـٰهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [العنكبوت: 55]، والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم ذكره من وصف عذابهم في النار، وهو: مبتدأ، وخبره قوله: { يُخَوّفُ ٱللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } أي: يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب؛ ليخافوه، فيتقوه، وهو: معنى { يٰعِبَادِ فَٱتَّقُونِ } أي: اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار، ووجه تخصيص العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم. وقيل: هو للكفار، وأهل المعاصي. وقيل: هو عامّ للمسلمين، والكفار.

{ وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } الموصول مبتدأ، وخبره قوله: { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } والطاغوت بناء مبالغة في المصدر كالرحموت، والعظموت، وهو: الأوثان، والشيطان. وقال مجاهد، وابن زيد: هو: الشيطان. وقال الضحاك، والسدّي: هو: الأوثان. وقيل: إنه الكاهن. وقيل: هو اسم أعجمي مثل طالوت، وجالوت. وقيل: إنه اسم عربيّ مشتق من الطغيان. قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحده مؤنثاً، ومعنى اجتنبوا الطاغوت: أعرضوا عن عبادته، وخصوا عبادتهم بالله عزّ وجلّ، وقوله: { أَن يَعْبُدُوهَا } في محل نصب على البدل من الطاغوت، بدل اشتمال، كأنه قال: اجتنبوا عبادة الطاغوت، وقد تقدّم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى في سورة البقرة، وقوله: { وَأَنَابُواْ إِلَى ٱللَّهِ } معطوف على اجتنبوا، والمعنى: رجعوا إليه، وأقبلوا على عبادته معرضين عما سواه { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ } بالثواب الجزيل، وهو: الجنة. وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل، أو عند حضور الموت، أو عند البعث { فَبَشّرْ عِبَادِ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } المراد بالعباد هنا: العموم، فيدخل الموصوفون بالاجتناب، والإنابة إليه دخولاً أوّلياً، والمعنى: يستمعون القول الحقّ من كتاب الله، وسنّة رسوله، فيتبعون أحسنه، أي: محكمه، ويعملون به. قال السدّي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به، فيعملون بما فيه. وقيل: هو الرجل يسمع الحسن، والقبيح، فيتحدّث بالحسن، وينكف عن القبيح، فلا يتحدّث به. وقيل: يستمعون القرآن وغيره، فيتبعون القرآن، وقيل: يستمعون الرخص والعزائم، فيتبعون العزائم، ويتركون الرخص، وقيل: يأخذون بالعفو، ويتركون العقوبة. ثم أثنى سبحانه على هؤلاء المذكورين، فقال: { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَاهُمُ ٱللَّهُ وَأُوْلَـئِكَ هُمْ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } أي: هم الذين أوصلهم الله إلى الحق، وهم أصحاب العقول الصحيحة، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم، ولم ينتفع من عداهم بعقولهم.

ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة، وحرم السعادة فقال: { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ } من هذه يحتمل أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء، وخبرها محذوف، أي: كمن يخاف، أو فأنت تخلصه، أو تتأسف عليه، ويحتمل أن تكون شرطية، وجوابه { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى ٱلنَّارِ } فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة الإنكارية لتأكيد معنى الإنكار. وقال سيبويه: إنه كرّر الاستفهام لطول الكلام. وقال الفراء: المعنى: أفأنت تنقذ من حقّت عليه كلمة العذاب، والمراد بكلمة العذاب هنا هي: قوله تعالى لإبليس: { { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [صۤ: 85]، وقوله: { { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } [الأعراف: 18] ومعنى الآية: التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان حريصاً على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء، حقت عليه كلمة الله لا يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمناً. قال عطاء: يريد أبا لهب، وولده، ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، وفي الآية تنزيل لمن يستحقّ العذاب بمن قد صار فيه، وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار.

ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة ظللاً من فوقهم النار، ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة، فقال: { لَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ }، وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، ومعنى { مَّبْنِيَّةٌ }: أنها مبنية بناء المنازل في إحكام أساسها، وقوّة بنائها، وإن كانت منازل الدنيا ليست بشيء بالنسبة إليها { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ } أي: من تحت تلك الغرف، وفي ذلك كمال لبهجتها، وزيادة لرونقها، وانتصاب { وَعَدَ ٱللَّهُ } على المصدرية المؤكدة لمضمون الجملة، لأن قوله: { لَهُمْ غُرَفٌ } في معنى: وعدهم الله بذلك، وجملة: { لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ ٱلْمِيعَادَ } مقرّرة للوعد، أي: لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير، والشرّ.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: { قُلْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } الآية. قال: هم: الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا، وحرمت عليهم الجنة. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: { خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ } قال: أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدّوا لهم لو عملوا بطاعة الله، فغيبوهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: كان سعيد بن زيد، وأبو ذرّ، وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول، والكلام لا إلٰه إلا الله قالوا بها، فأنزل الله على نبيه: { يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } الآية. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما نزل: { فَبَشّرْ عِبَادِ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، فاستقبل عمر الرسول، فردّه، فقال: يا رسول الله خشيت أن يتكل الناس، فلا يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا، ولو يعلمون قدر سخط ربي، وعقابه لاستصغروا أعمالهم" وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.