قوله: { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ } الاسم الشريف مبتدأ، والفعل خبره، ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم لكنّ، والاستدراك من محذوف مقدّر كأنهم قالوا: ما نشهد لك يا محمد بهذا، أي: الوحي والنبوّة، فنزل: { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ }. وقوله: { وَٱلْمَلَـئِكَةُ يَشْهَدُونَ } جملة معطوفة على الجملة الأولى، أو جملة حالية، وكذلك قوله: { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } جملة حالية، أي: متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره، من كونك أهلاً لما اصطفاك الله له من النبوّة، وأنزله عليك من القرآن { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي: كفى الله شاهداً، والباء زائدة، وشهادة الله سبحانه هي: ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بصدق ما أخبر به من هذا، وغيره.
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بكل ما يجب الإيمان به، أو بهذا الأمر الخاص، وهو ما في هذا المقام: { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وبقولهم ما نجد صفته في كتابنا، وإنما النبوّة في ولد هٰرون وداود، وبقولهم إن شرع موسى لا ينسخ { قَدْ ضَلُّواْ ضَلَـٰلاَ بَعِيداً } عن الحقّ بما فعلوا، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بجحدهم { وَظَلَمُواْ } غيرهم بصدهم عن السبيل، أو ظلموا محمداً بكتمانهم نبوّته، أو ظلموا أنفسهم بكفرهم، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني: { لَّمْ يَكُنْ ٱللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } إذا استمروا على كفرهم، وماتوا كافرين { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم، وفرط شقائهم، وجحدوا الواضح، وعاندوا البين { خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } أي: يدخلهم جهنم خالدين فيها، وهي حال مقدّرة. وقوله: { أَبَدًا } منصوب على الظرفية، وهو لدفع احتمال. أن الخلود هنا يراد به: المكث الطويل { وَكَانَ ذٰلِكَ } أي: تخليدهم في جهنم، أو ترك المغفرة لهم، والهداية مع الخلود في جهنم: { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء
{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82] { فآمنوا خيراً لكم } اختلف أئمة النحو في انتصاب { خيراً } على ماذا؟ فقال سيبويه، والخليل بفعل مقدر، أي: واقصدوا، أو أتو خيراً لكم، وقال الفراء: هو نعت لمصدر محذوف، أي: فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وذهب أبو عبيدة، والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدّرة، أي: فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم، وأقوى هذه الأقوال الثالث، ثم الأوّل، ثم الثاني على ضعف فيه: { وَإِن تَكْفُرُواْ } أي: وإن تستمروا على كفركم: { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْض } من مخلوقاته، وأنتم من جملتهم، ومن كان خالقاً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم، ففي هذه الجملة، وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان، وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان. لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزخرف: 87] قوله: { يأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } الغلو: هو التجاوز في الحدّ، ومنه غلا السعر يغلو غلاء، وغلا الرجل في الأمر غلواً، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها. والمراد بالآية: النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى، فمن الإفراط غلوّ النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة، وما أحسن قول الشاعر:ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمورذميم
{ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله، وقول النصارى المسيح ابن الله { إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ } المسيح مبتدأ، وعيسى بدل منه، وابن مريم صفة لعيسى، ورسول الله الخبر، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان، والجملة تعليل للنهي، وقد تقدّم الكلام على المسيح في آل عمران. قوله: { وَكَلِمَتُهُ } عطف على رسول الله، و{ أَلْقَـٰهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ } حال، أي: كوّنه بقوله كن، فكان بشرا من غير أب، وقيل: { كلمته } بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله:
{ { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـئِكَةُ يٰمَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } [آل عمران: 45] وقيل: الكلمة هاهنا بمعنى: الآية، ومنه: { { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـٰتِ رَبَّهَا } [التحريم: 12]، وقوله: { { مَّا نَفِدَتْ كَلِمَـٰتُ ٱللَّهِ } [لقمان: 27]. قوله: { وَرُوحٌ مّنْهُ } أي: أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله، وهذه الإضافة للتفضيل، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى. وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله، فيقال هذا روح من الله، أي: من خلقه، كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل: { رُوحُ مِنْهُ } أي من خلقه كما قال تعالى: { { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ } [الجاثية: 13]: أي: من خلقه، وقيل: { رُوحُ مِنْهُ } أي: رحمة منه، وقيل: { رُوحُ مِنْهُ } أي: برهان منه، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه. وقوله: { مِنْهُ } متعلق بمحذوف وقع صفة لروح، أي: كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه، وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ: { فآمنوا بالله ورسله } أي: بأنه سبحانه إله واحد { لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد } [الإخلاص: 2-4]، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه، ولا تكذبوهم، ولا تغلوا فيهم، فتجعلوا بعضهم آلهة. قوله: { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَـٰثَةٌ } ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج: أي: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، وقال الفراء، وأبو عبيد: أي: لا تقولوا هم ثلاثة كقوله:
{ { سَيَقُولُونَ ثَلَـٰثَةٌ } [الكهف: 22] وقال أبو علي الفارسي: لا تقولوا هو ثالث ثلاثة، فحذف المبتدأ والمضاف، والنصارى مع تفريق مذاهبهم متفقون على التثليث، ويعنون بالثلاثة: الثلاثة الأقانيم، فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً، وله ثلاثة أقانيم، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود، وأقنوم الحياة، وأقنوم العلم، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب: الوجود، وبالروح: الحياة، وبالابن: المسيح. وقيل: المراد بالآلهة الثلاثة: الله سبحانه وتعالى، ومريم، والمسيح. وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً. ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطل عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى: فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان، وتارة يوصف بأنه ابن الله، وتارة يوصف بأنه ابن الربّ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين. والحق ما أخبرنا الله به في القرآن، وما خالفه في التوراة، أو الإنجيل، أو الزبور، فهو من تحريف المحرّفين، وتلاعب المتلاعبين. ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام.
وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه، وذكر ما جرى له من المعجزات، والمراجعات لليهود ونحوهم، فاختلفت ألفاظهم، واتفقت معانيها، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ، والضبط، وذكر ما قاله عيسى، وما قيل له، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء، ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة، ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها، وهكذا الزبور، فإنه من أوّله إلى آخره من كلام داود عليه السلام. وكلام الله أصدق، وكتابه أحق، وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه. قوله: { ٱنتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ } أي: انتهوا عن التثليث، وانتصاب { خيراً } هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله: { فآمنوا خيراً لكم }. { إِنَّمَا ٱللَّهُ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ } لا شريك له ولا صاحبة ولا ولداً: { سُبْحَـٰنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي: أسبحه تسبيحاً عن أن يكون له ولد: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } وما جعلتموه له شريكاً، أو ولداً هو من جملة ذلك، والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً، ولا ولداً: { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً } فكل الخلق أمورهم إليه، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً.
وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:
"إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله" ، قالوا ما نعلم ذلك. فأنزل الله: { لَّـٰكِنِ ٱللَّهُ يَشْهَدُ } الآية. وأخرج عبد بن حميد، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر: ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال: يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته، أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر، فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه. وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا. وأخرج البخاري عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله" .