خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً
٢٩
وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً
٣٠
إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً
٣١
-النساء

فتح القدير

الباطل: ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع. والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة، وهذا الاستثناء منقطع، أي: لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالاً لكم. وقوله: { عَن تَرَاضٍ } صفة لتجارة، أي: كائنة عن تراض، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز، ومنه قوله تعالى: { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الصف: 10]. وقوله: { { يَرْجُونَ تِجَـٰرَةً لَّن تَبُورَ } [فاطر: 29].

واختلف العلماء في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر كما في الحديث الصحيح: "البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر" . وإليه ذهب جماعة من الصحابة، والتابعين، وبه قال الشافعي، والثوري، والأوزاعي، والليث، وابن عيينة، وإسحاق وغيرهم. وقال مالك، وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة، فيرتفع بذلك الخيار، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرىء "تجارة" بالرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة.

قوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } أي: لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضاً إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة. ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل، فقرّر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وهو في مسند أحمد، وسنن أبي داود وغيرهما.

قوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ } أي: القتل خاصة، أو أكل أموال الناس ظلماً، والقتل عدواناً وظلماً، وقيل: هو إشارة إلى كل ما نهى عنه في هذه السورة. وقال ابن جرير: إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى: { أَلِيماً يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً } [النساء: 19] لأن كل ما نهى عنه من أوّل السورة قرن به وعيد إلا من قوله: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ } فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً } والعدوان: تجاوز الحدّ. والظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وقيل: إن معنى العدوان، والظلم واحد، وتكريره لقصد التأكيد، كما في قول الشاعر:

وألفى قولها كذباً ومينا

وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص، وقتل المرتد، وسائر الحدود الشرعية، وكذلك قتل الخطأ. قوله: { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً } جواب الشرط، أي: ندخله ناراً عظيمة: { وَكَانَ ذٰلِكَ } أي: إصلاؤه النار { عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } لأنه لا يعجزه بشيء. وقرىء: «نصليه» بفتح النون، روي ذلك عن الأعمش، والنخعي، وهو: على هذه القراءة منقول من صلى، ومنه شاة مصلية.

قوله: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ } أي: إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها: { نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ } أي: ذنوبكم التي هي صغائر، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها، وجعل اجتنابها شرطاً لتكفير السيئات. وقد اختلف أهل الأصول في تحقيق معنى الكبائر، ثم في عددها، فأما في تحقيقها، فقيل: إن الذنوب كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال: الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر، والقبلة المحرّمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا، وقد روي نحو هذا عن الإسفراييني، والجويني، والقشيري، وغيرهم قالوا: والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سبباً لتكفير السيئات هي: الشرك، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ: { إِن تَجْتَنِبُواْ كبائر مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } وعلى قراءة الجمع، فالمراد أجناس الكفر، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [النساء: 116] قالوا: فهذه الآية مقيدة لقوله: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية. وقال سعيد بن جبير: كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة. وقال جماعة من أهل الأصول: الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحدّ، أو صرح بالوعيد فيه. وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره. وأما الاختلاف في عددها، فقيل: إنها سبع، وقيل: سبعون، وقيل: سبعمائة، وقيل: غير منحصرة، ولكن بعضها أكبر من بعض، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله. قوله: { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً } أي: مكان دخول، وهو الجنة: { كَرِيماً } أي: حسناً مرضياً، وقد قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، والكوفيون { مُّدْخَلاً } بضم الميم. وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، وكلاهما اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدراً.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، قال السيوطي بسند صحيح، عن ابن مسعود في قوله تعالى: { يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ } قال: إنها محكمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.

وأخرج ابن جرير، عن عكرمة، والحسن في الآية قال: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك الآية التي في النور: { { وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } [النور: 61] الآية. وأخرج ابن ماجه، وابن المنذر، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراض" وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي صالح، وعكرمة في قوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } قالا: نهاهم عن قتل بعضهم بعضاً. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير، عن عطاء بن أبي رباح نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن السدي: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } قال: أهل دينكم.

وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً } يعني: متعمداً اعتداء بغير حق: { وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } يقول: كان عذابه على الله هيناً. وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت قوله تعالى: { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } في كل ذلك أم في قوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }؟ قال: بل في قوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ }.

وأخرج عبد بن حميد، عن أنس بن مالك قال: هان ما سألكم ربكم: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ }. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس قال: كل ما نهى الله عنه، فهو كبيرة، وقد ذكرت الطرفة: يعني النظرة. وأخرج ابن جرير، عنه قال: كل شيء عصى الله فيه، فهو كبيرة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: كل ما وعد الله عليه النار كبيرة. وأخرج ابن جرير، والبيهقي في الشعب عنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب. وأخرج ابن جرير، عن سعيد بن جبير ما قدّمنا عنه. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس: أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه: أن رجلاً سأله كم الكبائر أسبع هي؟ قال: هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وأخرج البيهقي في الشعب عنه: كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد.

وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبع الموبقات،" قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي بكرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً، فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور،" فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت". وأخرج البخاري، وغيره عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس شك شعبة واليمين الغموس" . وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه،" قالوا: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسبّ أبا الرجل، فيسبّ أباه، ويسبّ أمه، فيسبّ أمه" . والأحاديث في تعداد الكبائر، وتعيينها كثيرة جداً، فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر، فإنه قد جمع، فأوعى.

واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن أبي هريرة، وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، ثم قال: "والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق، ثم تلا: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ }" . وأخرج أبو عبيد في فضائله، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود قال: إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرّني أن لي بها الدنيا، وما فيها، ولقد علمت أن العلماء إذا مرّوا بها يعرفونها: قوله تعالى: { { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } [النساء: 31] الآية، وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء: 40] الآية، وقوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48، 116] الآية، وقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ } [النساء: 64] الآية، وقوله: { { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [النساء: 110] الآية.