قوله: { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْهُدَىٰ } هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريباً من نصره لرسله، أي: آتيناه التوراة، والنبوّة، كما في قوله سبحانه:
{ { إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [المائدة:44] قال مقاتل: الهدى من الضلالة يعني: التوراة { وَأَوْرَثْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ ٱلْكِتَـٰبَ * هُدًى وَذِكْرَىٰ لأُوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ } المراد بالكتاب: التوراة، ومعنى { أورثنا }: أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم، وتوارثوها خلفاً عن سلف. وقيل: المراد بالكتاب: سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى، وهدى، وذكرى في محل نصب على أنهما مفعول لأجله، أي: لأجل الهدى، والذكر، أو على أنهما مصدران في موضع الحال، أي: هادياً ومذكراً، والمراد بأولي الألباب: أهل العقول السليمة. ثم أمر الله، رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى، فقال: { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي: اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل إن وعد الله الذي وعد به رسله حقّ لا خلف فيه، ولا شك في وقوعه كما في قوله: { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا }، وقوله: { { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ } [الصافات: 171 ــ 173] قال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه، فقال: { وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } قيل: المراد ذنب أمتك، فهو على حذف مضاف. وقيل: المراد الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء. وقيل: هو مجرد تعبد له بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِٱلْعَشِىّ وَٱلإِبْكَارِ } أي: دم على تنزيه الله ملتبساً بحمده. وقيل: المراد صلّ في الوقتين صلاة العصر، وصلاة الفجر. قاله الحسن، وقتادة. وقيل: هما صلاتان ركعتان غدوة، وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـٰنٍ أَتَـٰهُمْ } أي: بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } أي: ما في قلوبهم إلا تكبراً عن الحق يحملهم على تكذيبك، وجملة: { مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ } صفة لكبر قال الزجاج: المعنى: ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه، فجعله على حذف المضاف. وقال غيره: ما هم ببالغي الكبر. وقال ابن قتيبة: المعنى: إن في صدورهم إلا كبر، أي: تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم، وطمع أن يغلبوه، وما هم ببالغي ذلك. وقيل: المراد بالكبر: الأمر الكبير، أي: يطلبون النبوّة، أو يطلبون أمراً كبيراً يصلون به إليك من القتل، ونحوه، ولا يبلغون ذلك. وقال مجاهد: معناه: في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها. والمراد بهذه الآية: المشركون. وقيل: اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله. ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم، فقال: { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } أي: فالتجىء إليه من شرّهم، وكيدهم، وبغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية.
ثم بيّن سبحانه عظيم قدرته، فقال: { لَخَلْقُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ *أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } أي: أعظم في النفوس، وأجلّ في الصدور، لعظم أجرامهما، واستقرارهما من غير عمد، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فكيف ينكرون البعث، وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله:
{ { أَوَ لَيْسَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [يۤس: 81] قال أبو العالية: المعنى: لخلق السموات، والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيـى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث، أي: هما أكبر من إعادة خلق الناس { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } بعظيم قدرة الله، وأنه لا يعجزه شيء. ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالاً للباطل، والحق، وأنهما لا يستويان، فقال: { وَمَا يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } أي: الذي يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَلاَ ٱلْمُسِىء } أي: ولا يستوي المحسن بالإيمان، والعمل الصالح، والمسيء بالكفر، والمعاصي، وزيادة «لا» في، { ولا المسيء } للتأكيد { قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } قرأ الجمهور: { يتذكرون } بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، لأن قبلها، وبعدها على الغيبة لا على الخطاب، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات، أي: تذكراً قليلاً ما تتذكرون. { إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لأَتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } أي: لا شك في مجيئها، وحصولها { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } بذلك، ولا يصدقونه لقصور أفهامهم، وضعف عقولهم عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث. ثم لما بيّن سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه، ولا شبهة، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله: أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه، وهو: { وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال أكثر المفسرين المعنى: وحدوني، واعبدوني أتقبل عبادتكم، وأغفر لكم. وقيل: المراد بالدعاء: السؤال بجلب النفع، ودفع الضر. قيل: الأوّل أولى؛ لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو: العبادة. قلت: بل الثاني أولى؛ لأن معنى الدعاء حقيقة، وشرعاً هو: الطلب، فإن استعمل في غير ذلك، فهو: مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو: عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق، وما يبدّل القول لديه، ولا يخلف الميعاد.
ثم صرّح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي، وهو الطلب هو من عبادته، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ } أي: ذليلين صاغرين، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه، واستدفاع الشرّ به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم، وعوّلوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التعويل عليه، وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة، فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين. قيل: وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة، أي: أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه:
{ { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء } [الأنعام: 41] الله، قرأ الجمهور: { سيدخلون } بفتح الياء، وضم الخاء مبنياً للفاعل، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وورش، وأبو جعفر بضم الياء، وفتح الخاء مبنياً للمفعول. ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده، فقال: { ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلماً بارداً تناسبه الراحة بالسكون، والنوم { وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً } أي: مضيئاً، لتبصروا فيه حوائجكم، وتتصرفوا في طلب معايشكم { إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ } يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } النعم، ولا يعترفون بها، إما لجحودهم لها، وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر، وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم، وهم: الجاهلون { ذَلِكُـمُ ٱللَّهُ رَبُّـكُمْ خَـٰلِقُ كُـلّ شَىْء لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } بيّن سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده، قرأ الجمهور خالق بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأوّل عن المبتدأ، وقرأ زيد بن عليّ بنصبه على الاختصاص { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } أي: فكيف تنقلبون عن عبادته، وتنصرفون عن توحيده؟ { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي: مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده.
ثم ذكر لهم سبحانه نوعاً آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته، وتفرّده بالإلهية، فقال: { ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً وَٱلسَّمَاء بِنَـاء } أي: موضع قرار فيها تحيون، وفيها تموتون { وَٱلسَّمَاء بِنَاء } أي: سقفاً قائماً ثابتاً. ثم بيّن بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد، فقال: { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي: خلقكم في أحسن صورة. قال الزجاج: خلقكم أحسن الحيوان كله. قرأ الجمهور: (صوركم) بضم الصاد، وقرأ الأعمش، وأبو رزين بكسرها. قال الجوهري: والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها { وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } أي: المستلذات { ذٰلِكُمْ } المنعوت بهذه النعوت الجليلة { ٱللَّهُ رَبُّكُـمْ فَتَـبَـٰرَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي: كثرة خيره، وبركته { هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } أي: الباقي الذي لا يفنى المنفرد بالألوهية { فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } أي: الطاعة، والعبادة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } قال الفراء: هو خبر، وفيه إضمار أمر، أي: احمدوه.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم. قال السيوطي: بسند صحيح عن أبي العالية قال: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، ويكون في أمره، فعظموا أمره، وقالوا: نصنع كذا، ونصنع كذا، فأنزل الله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـٰنٍ أَتَـٰهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ }» قال: لا يبلغ الذي يقول: { فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } فأمر نبيه أن يتعوّذ من فتنة الدجال لخلق السماوات، والأرض أكبر من خلق الدجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال: هم: اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } قال: عظمة قريش.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الدعاء هو: العبادة" ثم قرأ { وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } قال: عن دعائي { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ }». قال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج ابن مردويه، والخطيب عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء هو العبادة، وقال ربكم: { ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ }" وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: { ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال: وحدوني أغفر لكم. وأخرج الحاكم وصححه، عن جرير بن عبد الله في الآية قال: اعبدوني. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء الاستغفار" وأخرح ابن أبي شيبة، والحاكم، وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع الله يغضب عليه" وأخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وأبو يعلى، والطبراني، عن معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل، ومما لم ينزل، فعليكم بالدعاء" وأخرج الترمذي، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخّ العبادة" . وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: { وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } الآية. وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ العبادة أفضل؟ فقال: "دعاء المرء لنفسه" وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال: لا إلٰه إلاّ الله، فليقل على أثرها: الحمد لله ربّ العالمين، وذلك قوله: { فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله ربّ العالمين }.