خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَمَّا جَآءَنِيَ ٱلْبَيِّنَـٰتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٦٦
هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ
٦٧
هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ
٦٨
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ
٦٩
ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِٱلْكِـتَابِ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
٧٠
إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ
٧١
فِي ٱلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ
٧٢
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ
٧٣
مِن دُونِ ٱللَّهِ قَـالُواْ ضَـلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلْكَافِرِينَ
٧٤
ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ
٧٥
ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ
٧٦
فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
٧٧
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْمُبْطِلُونَ
٧٨
ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
٧٩
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ
٨٠
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ
٨١
أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوۤاْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
٨٢
فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٨٣
فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ
٨٤
فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَافِرُونَ
٨٥
-غافر

فتح القدير

أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره، وأمره بالتوحيد، فقال: { قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } وهي: الأصنام. ثم بيّن وجه النهي، فقال: { لَمَّا جَاءنِى ٱلْبَيّنَـٰتُ مِن رَّبّى }، وهي: الأدلة العقلية والنقلية، فإنها توجب التوحيد { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي: أستسلم له بالانقياد، والخضوع. ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة على التوحيد، فقال: { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } أي: خلق أباكم الأوّل، وهو: أدم، وخلقه من تراب يستلزم خلق ذرّيته منه { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } قد تقدّم تفسير هذا في غير موضع { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي: أطفالاً، وأفرده لكونه اسم جنس، أو على معنى: يخرج كلّ واحد منكم طفلاً { ثُمَّ لِتَـبْلُغُواْ أَشُدَّكُـمْ }، وهي: الحالة التي تجتمع فيها القوّة، والعقل. وقد سبق بيان الأشدّ مستوفى في الأنعام، واللام التعليلية في: { لتبلغوا } معطوفة على علة أخرى، { ليخرجكم } مناسبة لها، والتقدير: لتكبروا شيئًا، فشيئا، ثم لتبلغوا غاية الكمال، وقوله: { ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً } معطوف على لتبلغوا، قرأ نافع، وحفص، وأبو عمرو، وابن محيصن، وهشام: { شيوخاً } بضم الشين، وقرأ الباقون بكسرها، وقرىء وشيخاً على الإفراد لقوله طفلاً، والشيخ من جاوز أربعين سنة { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ } أي: من قبل الشيخوخة { وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى } أي: وقت الموت، أو يوم القيامة، واللام هي: لام العاقبة { وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ } أي: لكي تعقلوا توحيد ربكم، وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة { هُوَ ٱلَّذِى يُحْيِـي وَيُمِيت } أي: يقدر على الإحياء، والإماتة { فَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً } من الأمور التي يريدها { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } من غير توقف، وهو: تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وقد تقدّم تحقيق معناه في البقرة، وفيما بعدها.

ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله، فقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ }، وقد سبق بيان معنى المجادلة { أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ } أي: كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد. قال ابن زيد: هم: المشركون بدليل قوله: { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِٱلْكِـتَـٰبِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } قال القرطبي: وقال أكثر المفسرين: نزلت في القدرية. قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية، فلا أدري فيمن نزلت، ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدلّ على غير ما قالوه، فقال: { ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِٱلْكِـتَـٰبِ } أي: بالقرآن، وهذا وصف لا يصحّ أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام، والموصول إما في محل جرّ على أنه نعت للموصول الأوّل، أو بدل منه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذمّ، والمراد بالكتاب: إما القرآن، أو جنس الكتب المنزلة من عند الله، وقوله: { وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } معطوف على قوله { بالكتاب }، ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس، أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } عاقبة أمرهم، ووبال كفرهم، وفي هذا وعيد شديد، والظرف في قوله: { إِذِ ٱلأَغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ } متعلق { بيعلمون }، أي: فسوف يعلمون وقت كون الأغلال في أعناقهم { وٱلسَّلَـٰسِلُ } معطوف على الأغلال، والتقدير: إذ الأغلال، والسلاسل في أعناقهم، ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ وخبره محذوف لدلالة في أعناقهم عليه، ويجوز أن يكون خبره { يُسْحَبُونَ فِى ٱلْحَمِيمِ } بحذف العائد، أي: يسحبون بها في الحميم، وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل، وقرأ ابن عباس، وابن مسعود، وعكرمة، وأبو الجوزاء بنصبها، وقرءوا: (يسحبون) بفتح الياء مبنياً للفاعل، فتكون السلاسل مفعولاً مقدّماً، وقرأ بعضهم بجرّ السلاسل. قال الفراء: وهذه القراءة محمولة على المعنى، إذ المعنى: أعناقهم في الأغلال، والسلاسل. وقال الزجاج: المعنى على هذه القراءة: وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري: بأن ذلك لا يجوز في العربية، ومحل يسحبون على تقدير عطف السلاسل على الأغلال، وعلى تقدير كونها مبتدأ، وخبرها في أعناقهم النصب على الحال، أو لا محل له، بل هو مستأنف جواب سؤال مقدّر، والحميم هو: المتناهي في الحرّ. وقيل: الصديد، وقد تقدّم تفسيره { ثُمَّ فِى ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ } يقال: سجرت التنور أي: أوقدته، وسجرته ملأته بالوقود، ومنه { { وَٱلْبَحْرِ ٱلْمَسْجُورِ } [الطور: 6] أي: المملوء، فالمعنى: توقد بهم النار، أو تملأ بهم. قال مجاهد، ومقاتل: توقد بهم النار، فصاروا وقودها.

{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } هذا توبيخ، وتقريع لهم، أي: أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله { قَـالُواْ ضَـلُّواْ عَنَّا } أي: ذهبوا، وفقدناهم، فلا نراهم، ثم أضربوا عن ذلك، وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم، وأنه لا وجود لهم، فقالوا: { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } أي: لم نكن نعبد شيئاً، قالوا هذا لما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة، والجهالة، وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر، ولا يسمع، ولا يضرّ، ولا ينفع، وليس هذا إنكاراً منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي: مثل ذلك الضلال يضلّ الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار، والإشارة بقوله: { ذٰلِكُمْ } إلى الإضلال المدلول عليه بالفعل، أي: ذلك الإضلال بسبب { مَّا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى ٱلأَرْضِ } أي: بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله،والسرور بمخالفة رسله، وكتبه. وقيل: بما كنتم تفرحون به من المال، والأتباع، والصحة، وقيل: بما كنتم تفرحون به من إنكار البعث. وقيل: المراد بالفرح هنا: البطر، والتكبر، وبالمرح: الزيادة في البطر. وقال مجاهد، وغيره: تمرحون، أي: تبطرون، وتأشرون. وقال الضحاك: الفرح السرور، والمرح العدوان. وقال مقاتل: المرح البطر، والخيلاء { ٱدْخُلُواْ أَبْوٰبَ جَهَنَّمَ } حال كونكم { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } أي: مقدّرين الخلود فيها { فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَـبّرِينَ } عن قبول الحق جهنم.

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر، فقال: { فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي: وعده بالانتقام منهم كائن لا محالة، إما في الدنيا، أو في الآخرة، ولهذا قال: { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ } من العذاب في الدنيا بالقتل، والأسر، والقهر، وما في { فإما } زائدة على مذهب المبرد، والزجاج، والأصل فإن نرك، ولحقت بالفعل نون التأكيد، وقوله: { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } معطوف على { نرينك } أي: أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } يوم القيامة، فنعذبهم { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ } أي: أنبأناك بأخبارهم، وما لقوه من قومهم { وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } خبره، ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه، وبين قومه { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِـئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } لا من قبل نفسه، والمراد بالآية: المعجزة الدالة على نبوّته { فَإِذَا جَـاء أَمْرُ ٱللَّهِ } أي: إذا جاء الوقت المعين لعذابهم في الدنيا، أو في الآخرة { قُضِىَ بِٱلْحَقّ } فيما بينهم، فينجي الله بقضائه الحق عباده المحقين { وَخَسِرَ هُنَالِكَ } أي: في ذلك الوقت { ٱلْمُبْطِلُونَ } الذين يتبعون الباطل، ويعملون به.

ثم امتنّ سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى، فقال: { ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَنْعَـٰمَ } أي: خلقها لأجلكم، قال الزجاج: الأنعام ها هنا الإبل، وقيل: الأزواج الثمانية { لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا } من للتبعيض، وكذلك في قوله: { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ويجوز أن تكون لابتداء الغاية في الموضعين، ومعناها: ابتداء الركوب، وابتداء الأكل، والأوّل أولى. والمعنى: لتركبوا بعضها، وتأكلوا بعضها { وَلَكُمْ فيِهَا مَنَـٰفِعُ } أخر غير الركوب، والأكل من الوبر، والصوف، والشعر، والزبد، والسمن، والجبن، وغير ذلك { وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ } قال مجاهد، ومقاتل، وقتادة: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في سورة النحل { وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } أي: على الإبل في البرّ، وعلى السفن في البحر. وقيل: المراد بالحمل على الأنعام هنا: حمل الولدان، والنساء بالهوادج { وَيُرِيكُمْ ءايَـٰتِهِ } أي: دلالاته الدالة على كمال قدرته، ووحدانيته { فَأَىَّ ءايَـٰتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ }، فإنها كلها من الظهور، وعدم الخفاء بحيث لا ينكرها منكر، ولا يجحدها جاحد، وفيه تقريع لهم، وتوبيخ عظيم، ونصب { أيّ } بتنكرون، وإنما قدم على العامل فيه، لأن له صدر الكلام.

ثم أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار، والتفكر في آيات الله، فقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من الأمم التي عصت الله، وكذبت رسلها، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدلّ على ما نزل بهم من العقوبة، وما صاروا إليه من سوء العاقبة. ثم بيّن سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة، والقوّة، فقال: { كَانُواْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } أي: أكثر منهم عدداً، وأقوى منهم أجساداً، وأوسع منهم أموالاً، وأظهر منهم { آثَارا فِى ٱلأَرْضِ } بالعمائر، والمصانع، والحرث { فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يجوز أن تكون "ما" الأولى استفهامية، أي: أيّ شيء أغنى عنهم، أو نافية. أي: لم يغن عنهم، و"ما" الثانية يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون مصدرية.

{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ } أي: بالحجج الواضحات، والمعجزات الظاهرات { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ ٱلْعِلْمِ } أي: أظهروا الفرح بما عندهم مما يدعون أنه من العلم من الشبه الداحضة، والدعاوي الزائغة، وسماه علماً تهكماً بهم، أو على ما يعتقدونه. وقال مجاهد: قالوا: نحن أعلم منهم لن نعذب، ولن نبعث. وقيل: المراد من علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله: { { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } [الروم: 7]، وقيل: الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم: الرسل، وذلك أنه لما كذبهم قومهم أعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين، ومنجي المؤمنين، ففرحوا بذلك { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي: أحاط بهم جزاء استهزائهم { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي: عاينوا عذابنا النازل بهم { قَالُواْ ءامَنَّا بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ }، وهي: الأصنام التي كانوا يعبدونها { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَـٰنُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي: عند معاينة عذابنا، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه، فإنه إنما ينفع الإيمان الاختياري لا الإيمان الاضطراري { سُنَّتُ ٱللَّهِ ٱلَّتِى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } أي: التي قد مضت في عباده، والمعنى: أن الله سبحانه سن هذه السنّة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب، وقد مضى بيان هذا في سورة النساء، وسورة التوبة، وانتصاب سنّة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة وعد الله، وما أشبهه من المصادر المؤكدة. وقيل: هو منصوب على التحذير، أي: احذروا يا أهل مكة سنّة الله في الأمم الماضية، والأوّل أولى. { وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَـٰفِرُونَ } أي: وقت رؤيتهم بأس الله، ومعاينتهم لعذابه. قال الزجاج: الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.

وقد أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث والنشور، عن عبد الله بن عمرو قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِذِ ٱلأَغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ } إلى قوله: { يُسْجَرُونَ }، فقال: "لو أن رصاصة مثل هذه، وأشار إلى جمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها، أو قال قعرها" وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار، عن ابن عباس قال: يسحبون في الحميم، فينسلخ كل شيء عليهم من جلد، ولحم، وعرق حتى يصير في عقبه حتى إن لحمه قدر طوله، وطوله ستون ذراعاً، ثم يكسى جلداً آخر، ثم يسجر في الحميم. وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله: { وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } قال: بعث الله عبداً حبشياً، فهو ممن لم يقصص على محمد.