خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُبِينِ
٢
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٣
وَإِنَّهُ فِيۤ أُمِّ ٱلْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ
٤
أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ
٥
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ
٦
وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٧
فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ
٨
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ
٩
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠
وَٱلَّذِي نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ
١١
وَٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ
١٢
لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
١٣
وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ
١٤
وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ ٱلإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ
١٥
أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِٱلْبَنِينَ
١٦
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ
١٧
أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ
١٨
وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ
١٩
وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
٢٠
-الزخرف

فتح القدير

قوله: { حـم * وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ } الكلام ها هنا في الإعراب كالكلام الذي قدّمناه في { { يس * وَٱلْقُرْءانِ ٱلْحَكِيمِ } [يسۤ: 1، 2]، فإن جعلت { حمۤ } قسماً كانت الواو عاطفة، وإن لم تجعل قسماً، فالواو للقسم، وجواب القسم { إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ }، وقال ابن الأنباري: من جعل جواب، والكتاب: { حمۤ } كما تقول: نزل والله، وجب والله وقف على { الكتاب المبين }، ومعنى { جعلناه }، أي: سميناه، ووصفناه، ولذلك تعدّى إلى مفعولين. وقال السدّي: المعنى: أنزلناه { قُرْءاناً }. وقال مجاهد: قلناه. وقال سفيان الثوري: بيناه { عَرَبِيّاً }، وكذا قال الزجاج، أي: أنزل بلسان العرب، لأن كلّ نبي أنزل كتابه بلسان قومه. وقال مقاتل: لأن لسان أهل الجنة عربيّ { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي: جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه، وتتعقلوا معانيه، وتحيطوا بما فيه. قال ابن زيد: لعلكم تتفكرون. { وَإِنَّهُ فِى أُمّ ٱلْكِتَـٰبِ } أي: وإن القرآن في اللوح المحفوظ { لَدَيْنَا } أي: عندنا { لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف، ولا تناقض، والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها. قال الزجاج: { أمّ الكتاب }: أصل الكتاب، وأصل كلّ شيء: أمه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال: { { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [البروج: 21، 22] وقال ابن جريج: المراد بقوله: { وَأَنَّهُ } أعمال الخلق من إيمان، وكفر، وطاعة، ومعصية. قال قتادة: أخبر عن منزلته، وشرفه، وفضله، أي: إن كذبتم به يا أهل مكة، فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل. { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذّكْرَ صَفْحاً } يقال: ضربت عنه، وأضربت عنه: إذا تركته، وأمسكت عنه، كذا قال الفراء، والزجاج، وغيرهما، وانتصاب { صفحاً } على المصدرية، وقيل: على الحال، على معنى: أفنضرب عنكم الذكر صافحين، والصفح مصدر قولهم: صفحت عنه إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك، وعنقك، والمراد بالذكر هنا: القرآن، والاستفهام للإنكار، والتوبيخ. قال الكسائي: المعنى: أفنضرب عنكم الذكر طياً فلا توعظون، ولا تؤمرون. وقال مجاهد، وأبو صالح، والسدّي: أفنضرب عنكم العذاب، ولا نعاقبكم على إسرافكم، وكفركم. وقال قتادة: المعنى: أفنهلككم، ولا نأمركم، ولا ننهاكم؟ وروي عنه: أنه قال: المعنى: أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به؟ وقيل: الذكر: التذكير، كأنه قال: أنترك تذكيركم { أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ }، قرأ نافع، وحمزة، والكسائي: "إن كنتم" بكسر "إن" على أنها الشرطية، والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقرأ الباقون بفتحها على التعليل، أي: لأن كنتم قوماً منهمكين في الإسراف مصرّين عليه، واختار أبو عبيد قراءة الفتح. ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى ٱلأَوَّلِينَ } كم هي الخبرية التي معناها: التكثير، والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة { وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } كاستهزاء قومك بك { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } أي: أهلكنا قوماً أشدّ قوّة من هؤلاء القوم، وانتصاب { بطشاً } على التمييز أو الحال، أي: باطشين { وَمَضَىٰ مَثَلُ ٱلأَوَّلِينَ } أي: سلف في القرآن ذكرهم غير مرة. وقال قتادة: عقوبتهم، وقيل: صفتهم، والمثل: الوصف والخبر. وفي هذا تهديد شديد، لأنه يتضمن أن الأوّلين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم. { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } أي: لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية؟ أقرّوا بأن الله خالقهنّ ولم ينكروا، وذلك أسوأ لحالهم وأشدّ لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكاً له، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ من المخلوقات وهي: الأصنام فجعلوها شركاء لله. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم نعمته على عباده وكمال قدرته في مخلوقاته فقال: { ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مِهَـٰداً } وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله، ولو كان متصلاً بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا: الذي جعل لنا الأرض مهاداً، والمهاد: الفراش والبساط، وقد تقدّم بيانه، قرأ الجمهور: { مهاداً } وقرأ الكوفيون (مهداً) { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي طرقاً تسلكونها إلى حيث تريدون، وقيل: معايش تعيشون بها { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم. { وَٱلَّذِى نَزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ } أي: بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زرائعكم ويهدم منازلكم ويهلككم بالغرق، ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة، وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي: أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات. قرأ الجمهور: { ميتاً } بالتخفيف. وقرأ عيسى وأبو جعفر بالتشديد { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } من قبوركم، أي: مثل ذلك الإحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها تبعثون من قبوركم أحياء، فإن من قدر على هذا قدر على ذلك، وقد مضى بيان هذا في آل عمران والأعراف. قرأ الجمهور: { تخرجون } مبنياً للمفعول، وقرأ الأعمش، ويحيـى بن وثاب، وحمزة، والكسائي، وابن ذكوان عن ابن عامر مبنياً للفاعل. { وَٱلَّذِى خَلَقَ ٱلأزْوٰجَ كُلَّهَا } المراد بالأزواج هنا: الأصناف، قال سعيد بن جبير: الأصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف، والليل والنهار، والسمٰوات والأرض، والجنة والنار. وقيل: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، وقيل: أزواج النبات، كقوله: { { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [قۤ: 7] و: { { مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [الشعراء: 7] وقيل: ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشرّ، وإيمان وكفر، والأوّل أولى { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَـٰمِ مَا تَرْكَبُونَ } في البحر والبرّ، أي: ما تركبونه { لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ } الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد، لأن المراد به: الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجنس فلذلك ذكر، وجمع الظهر لأن المراد ظهور هذا الجنس، والاستواء: الاستعلاء، أي: لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } أي: هذه النعمة التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبرّ. وقال مقاتل والكلبي: هو أن يقول: الحمد لله الذي رزقني هذا وحملني عليه { وَتَقُولُواْ سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا } أي: ذلل لنا هذا المركب، وقرأ عليّ بن أبي طالب: (سبحان من سخر لنا هٰذا) قال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم، ومعنى { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ }: ما كنا له مطيقين، يقال: أقرن هذا البعير: إذا أطاقه. وقال الأخفش وأبو عبيدة: مقرنين: ضابطين، وقيل: مماثلين له في القوّة، من قولهم: هو قرن فلان إذا كان مثله في القوّة، وأنشد قطرب قول عمرو بن معديكرب:

لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا

وقال آخر:

ركبتم صعبتي أشراً وحيفا ولستم للصعاب بمقرنينا

والمراد بالأنعام هنا: الإبل خاصة، وقيل الإبل والبقر، والأوّل أولى { وَإِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ } أي: راجعون إليه، وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة. ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدّم ذكرهم، فقال: { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا } قال قتادة: أي: عدلاً، يعني: ما عبد من دون الله. وقال الزجاج والمبرد: الجزء هنا: البنات، والجزء عند أهل العربية: البنات، يقال: قد أجزأت المرأة: إذا ولدت البنات، ومنه قول الشاعر:

إن أجزأت حرّة يوماً فلا عجب قد تجزىء الحرّة المذكار أحياناً

وقد جعل صاحب الكشاف تفسير الجزء بالبنات من بدع التفسير، وصرح بأنه مكذوب على العرب. ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد، وهما إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها، ويؤيد تفسير الجزء بالبنات ما سيأتي من قوله: { أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } وقوله: { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ } وقوله: { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً } وقيل: المراد بالجزاء هنا: الملائكة؛ فإنهم جعلوهم أولاداً لله سبحانه قاله مجاهد والحسن. قال الأزهري: ومعنى الآية: أنهم جعلوا لله من عباده نصيباً، على معنى: أنهم جعلوا نصيب الله من الولدان { إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } أي: ظاهر الكفران مبالغ فيه، قيل: المراد بالإنسان هنا: الكافر، فإنه الذي يجحد نعم الله عليه جحوداً بيناً. ثم أنكر عليهم هذا فقال: { أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } وهذا استفهام تقريع وتوبيخ. وأم هي: المنقطعة، والمعنى: أتخذ ربكم لنفسه البنات { وَأَصْفَـٰكُم بِٱلْبَنِينَ } فجعل لنفسه المفضول من الصنفين ولكم الفاضل منهما، يقال: أصفيته بكذا، أي: آثرته به، وأصفيته الودّ: أخلصته له، ومثل هذه الآية قوله: { { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأنثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [النجم:21، 22] وقوله: { { أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ } [الإسراء: 40] وجملة: { وأصفاكم } معطوفة على { اتخذ } داخلة معها تحت الإنكار. ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال: { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً } أي بما جعله للرحمٰن سبحانه من كونه جعل لنفسه البنات، والمعنى: أنه إذا بشر أحدهم بأنها ولدت له بنت اغتمّ لذلك وظهر عليه أثره، وهو معنى قوله: { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } أي: صار وجهه مسودًّا بسبب حدوث الأنثى له حيث لم يكن الحادث له ذكراً مكانها { وَهُوَ كَظِيمٌ } أي: شديد الحزن كثير الكرب مملوء منه. قال قتادة: حزين. وقال عكرمة: مكروب، وقيل: ساكت، وجملة { وَهُوَ كَظِيمٌ } في محل نصب على الحال. ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال: { أَوْ من يُنَشَّأُ فِى ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } معنى ينشأ: يربى، والنشوء: التربية، والحلية: الزينة، و"من" في محل نصب بتقدير مقدّر معطوف على { جعلوا }؛ والمعنى: أو جعلوا له سبحانه من شأنه أن يربى في الزينة وهو عاجز عن أن يقوم بأمور نفسه، وإذا خوصم لا يقدر على إقامة حجته ودفع ما يجادله به خصمه لنقصان عقله وضعف رأيه؟ قال المبرد: تقدير الآية: أو يجعلون له من ينشأ في الحلية، أي: ينبت في الزينة؟ قرأ الجمهور: "ينشأ" بفتح الياء وإسكان النون، وقرأ ابن عباس والضحاك، وابن وثاب، وحفص، وحمزة، والكسائي، وخلف بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين. واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار الثانية أبو عبيد. قال الهروي: الفعل على القراءة الأولى لازم، وعلى الثانية متعدّ. والمعنى: يربى ويكبر في الحلية. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلاّ تكلمت بالحجة عليها. وقال ابن زيد والضحاك: الذي ينشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة. { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً } الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء كما تقول: جعلت زيداً أفضل الناس، أي: قلت بذلك، وحكمت له به. قرأ الكوفيون: { عباد } بالجمع، وبها قرأ ابن عباس. وقرأ الباقون: { عند الرحمٰن } بنون ساكنة، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، لأن الإسناد فيها أعلى، ولأن الله إنما كذبهم في قوله: إنهم بنات الله، فأخبرهم أنهم عباده، ويؤيد هذه القراءة قوله: { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [الأنببياء: 26]، واختار أبو حاتم القراءة الثانية، قال: وتصديق هذه القراءة قوله: { { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ } [الأعراف: 206]، ثم وبخهم، وقرعهم، فقال: { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } أي: أحضروا خلق الله إياهم، فهو من الشهادة التي هي: الحضور، وفي هذا تهكم بهم، وتجهيل لهم. قرأ الجمهور: { أشهدوا } على الاستفهام بدون واو. وقرأ نافع: (أو اشهدوا). وقرأ الجمهور: { سَتُكْتَبُ شَهَـٰدَتُهُمْ } بضم التاء الفوقية، وبناء الفعل للمفعول، ورفع شهادتهم، وقرأ السلمي، وابن السميفع، وهبيرة عن حفص بالنون، وبناء الفعل للفاعل، ونصب شهادتهم، وقرأ أبو رجاء: (شهاداتهم) بالجمع، والمعنى: سنكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في ديوان أعمالهم، لنجازيهم على ذلك { وَيُسْـئَلُونَ } عنها يوم القيامة. { وَقَالُواْ لَوْ شَاء ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَـٰهُمْ } هذا فنّ آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء، والسخرية، ومعناه: لو شاء الرحمٰن في زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة، وهذا كلام حقّ يراد به باطل، وقد مضى بيانه في الأنعام، فبيّن سبحانه جهلهم بقوله: { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي: ما لهم بما قالوه من أن الله لو شاء عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم من علم، بل تكلموا بذلك جهلاً، وأرادوا بما صورته صورة الحقّ باطلاً، وزعموا أنه إذا شاء، فقد رضي. ثم بيّن انتفاء علمهم بقوله: { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي: ما هم إلاّ يكذبون، فيما قالوا، ويتمحلون تمحلاً باطلاً. وقيل: الإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى قوله: { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً }. قاله قتادة، ومقاتل، والكلبي، وقال مجاهد، وابن جريج أي: ما لهم بعبادة الأوثان من علم.

وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن أوّل ما خلق الله من شيء القلم، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، والكتاب عنده، ثم قرأ { وَإِنَّهُ فِى أُمّ ٱلْكِتَـٰبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ }. وأخرج ابن مردويه نحوه عن أنس مرفوعاً. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ ٱلذّكْرَ صَفْحاً } قال: أحببتم أن يصفح عنكم، ولم تفعلوا ما أمرتم به. وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والحاكم، وابن مردويه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ركب راحلته، ثم كبر ثلاثاً، ثم قال: { سُبْحَـٰنَ ٱلَّذِى سَخَّرَ لَنَا هَـٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَىٰ رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ }. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } قال: مطيقين. وأخرج عبد بن حميد عنه { أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى ٱلْحِلْيَةِ } قال: هو النساء فرق بين زيهنّ، وزيّ الرجال، ونقصهنّ من الميراث، وبالشهادة، وأمرهنّ بالقعدة، وسماهنّ الخوالف. وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال: كنت أقرأ هذا الحرف { ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً }، فسألت ابن عباس فقال: عباد الرحمٰن؟ قلت: فإنها في مصحفي (عند الرحمن) قال: فامحها، واكتبها { عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ }.