خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
١٧
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ
١٨
وَلِكُلٍّ دَرَجَٰتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَٰلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
١٩
وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـٰتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ
٢٠
-الأحقاف

فتح القدير

لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه، وعلى والديه ذكر من قال لهما قولاً يدلّ على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان، فقال: { وَٱلَّذِى قَالَ لِوٰلِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا } الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول، ولهذا أخبر عنه بالجمع، وأفٍّ كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه. قرأ نافع وحفص و{ أفٍّ } بكسر الفاء مع التنوين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وابن محيصن بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين وهي لغات. وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل. [أي: سورة الإِسراء]، واللام في قوله: { لَّكُمَا } لبيان التأفيف، أي: التأفيف لكما، كما في قوله: { هَيْتَ لَكَ } [يوسف: 23] قرأ الجمهور { أتعدانني } بنونين مخففتين، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة، وأسكنها الباقون. وقرأ أبو حيوة، والمغيرة، وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى، ورويت هذه القراءة عن نافع. وقرأ الحسن، وشيبة، وأبو جعفر، وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى، كأنهم فرّوا من توالي مثلين مكسورين. وقرأ الجمهور: { أن أخرج } بضم الهمزة وفتح الراء مبنياً للمفعول. وقرأ الحسن، ونصر، وأبو العالية، والأعمش، وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبنياً للفاعل. والمعنى: أتعدانني أن أبعث بعد الموت، وجملة { وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِى } في محل نصب على الحال، أي: والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا، ولم يبعث منهم أحد، وهكذا جملة: { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ ٱللَّهَ } في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهما يستغيثان الله له، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان، واستغاث يتعدّى بنفسه وبالباء يقال: استغاث الله، واستغاث به. وقال الرازي: معناه يستغيثان بالله من كفره، فلما حذف الجار وصل الفعل، وقيل: الاستغاثة: الدعاء، فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء: يقال: أجاب الله دعاءه وغواثه، وقوله: { وَيْلَكَ } هو بتقدير القول، أي: يقولان له: ويلك، وليس المراد به: الدعاء عليه، بل الحثّ له على الإيمان، ولهذا قالا له: { آمن إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي: آمن بالبعث إن وعد الله حقّ لا خلف فيه { فَيَقُولُ } عند ذلك مكذباً لما قالاه: { مَا هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلأوَّلِينَ } أي: ما هذا الذي تقولانه من البعث إلاّ أحاديث الأوّلين، وأباطيلهم التي سطّروها في الكتب. قرأ الجمهور: { إن وعد الله } بكسر إن على الاستئناف، أو التعليل، وقرأ عمر بن فايد والأعرج بفتحها، على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء، أي: آمن بأن وعد الله بالبعث حقّ { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ } أي: أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حقّ عليهم القول، أي: وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس: { { لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [صۤ: 85] كما يفيده قوله: { فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ }، وجملة: { إِنَّهُمْ كَانُواْ خَـٰسِرِينَ } تعليل لما قبله، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرحمٰن بن أبي بكر، وأنه الذي قال لوالديه ما قال، فإنه من أفاضل المؤمنين، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب، وسيأتي بيان سبب النزول في آخر البحث إن شاء الله. { وَلِكُلّ دَرَجَـٰتٌ مّمَّا عَمِلُواْ } أي: لكلّ فريق من الفريقين المؤمنين، والكافرين من الجنّ والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلاً، ودرجات أهل الجنة تذهب علوًّا { وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَـٰلَهُمْ } أي: جزاء أعمالهم. قرأ الجمهور: (لنوفيهم) بالنون. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وعاصم، وأبو عمرو، ويعقوب بالياء التحتية. واختار أبو عبيد القراءة الأولى، واختار الثانية أبو حاتم { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي: لا يزاد مسيء، ولا ينقص محسن، بل يوفّى كل فريق ما يستحقه من خير وشرّ، والجملة في محلّ نصب على الحال، أو مستأنفة مقررة لما قبلها { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ } الظرف متعلق بمحذوف، أي: اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء، فينظرون إلى النار ويقربون منها، وقيل: معنى { يعرضون }: يعذبون، من قولهم: عرضه على السيف، وقيل: في الكلام قلب. والمعنى: تعرض النار عليهم { أَذْهَبْتُمْ طَيّبَـٰتِكُمْ فِى حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } أي: يقال لهم ذلك، قيل: وهذا المقدّر هو الناصب للظرف، والأوّل أولى. قرأ الجمهور { أذهبتم } بهمزة واحدة، وقرأ الحسن، ونصر، وأبو العالية، ويعقوب، وابن كثير بهمزتين مخففتين. ومعنى الاستفهام: التقريع والتوبيخ. قال الفراء، والزجاج: العرب توبخ بالاستفهام وبغيره، فالتوبيخ كائن على القراءتين. قال الكلبي: المراد بالطيبات: اللذات، وما كانوا فيه من المعايش { وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } أي: بالطيبات، والمعنى: أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه، ولم يبالوا بالذنب تكذيباً منهم لما جاءت به الرّسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب { فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } أي: العذاب الذي فيه ذلّ لكم، وخزي عليكم. قال مجاهد، وقتادة: الهون: الهوان بلغة قريش { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى ٱلأرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ } أي: بسبب تكبركم عن عبادة الله، والإيمان به وتوحيده { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي: تخرجون عن طاعة الله، وتعملون بمعاصيه، فجعل السبب في عذابهم أمرين: التكبر عن اتباع الحق، والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الكفرة، فإنهم قد جمعوا بينهما.

وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية؛ لكي يبايع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمٰن بن أبي بكر شيئًا، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا أنزل فيه: { وَٱلَّذِى قَالَ لِوٰلِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا } فقالت عائشة: ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلاّ أن الله أنزل عُذري. وأخرج عبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه، قال مروان: سنة أبي بكر، وعمر، فقال عبد الرحمٰن: سنة هرقل، وقيصر، فقال مروان: هذا الذي قال الله فيه: { وَٱلَّذِى قَالَ لِوٰلِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَا } الآية، فبلغ ذلك عائشة فقالت: كذب مروان، والله ما هو به، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان، ومروان في صلبه، فمروان من لعنه الله. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس في الآية قال: هذا ابن لأبي بكر. وأخرج نحوه أبو حاتم عن السديّ، ولا يصح هذا كما قدّمنا.